الأربعاء، 23 فبراير 2011

جثة الصفر




لن أقول أنه فقير حتى لا ينفر القارىء.
ولن أرسم الأزقّة التي ضاع فيها قبل أن يصل الرصيف.
ولن أشي باسم أخته حتى لا أُثير فضول أحد..
ولأني لا أعلم اسمه ولا من أين أتى, سأروي قصته "هو" دون أي تعريف خاص؛ باستثناء تلك المتعلقات الجسدية المتداولة بين البشر: رأس متوسط الحجم, ليس كبيراً جداً حتى لا يحسد عليه, ولا صغيراً حتى لا يشفق عليه أكثر الناس زهداً.
ولأنه يقف على الرصيف ويستعد لقطع الشارع, فحتماً كان يملك أرجلاً يحملنه, رجلين اثنتين فقط, نحيفتان وبالكاد تكفيانه, ولأنه لا يطير فهو يحتاجهن جدا لينقلانه إلى الرصيف المقابل.
وأيضاً –وهذا ليس بذخاً- يملك ذراعين, ويبدوان من بعيد مثل أعواد الرمان الجافة, وفي نهاية كل ذراع يوجد يد, واحدة فارغة ولا يستعملهما إلا في الأمور الضرورية, كأن ينكش شعره الأسود الطويل, والثانية يحمل بها نظارة زرقاء ماركة مغني مشهور, لم يرتديها أبداً, كان يحملها مجاملة لروح العصر.
ولأنه يقف على الرصيف ويراه المارّة, فلا بد وأنه كان يرتدي ثياباً –وهذا ليس ترفاً-, فالبنطال مشقوق من عند الركبة, ولأول نظرة لن تستطيع تمييز لونه –ما بين الأبيض والأسود- لكثرة ما استوطنه وغسله يدوياً "البنطلون المناضل" هكذا يسمونه.
أما القميص الرياضي.. فكان لونه أزرقا قبل عام, ومكتوب على ظهره رقم (10) باللون الأبيض الساطع, أما وقد بهت لون القميص إلى الأخضر لشدة ما ضربته الشمس, أصبح يشجع الفريق الأخضر تماشياً مع تدرج اللون, وبعيداً عن نزعته الرياضية الغير موجودة أصلاً, فموقفه من الثياب لا يتعدى كونها وسيلة للحشمة والتدفئة في آن.
إذنْ, نحن نراقب إنساناً كامل التكوين يقف على الرصيف ويهم بقطع الطريق, ينظر إلى يساره وينتظر منفذاً آمناً للمرور, والسيارات تنهمر باتجاه واحد مثل مياه النهر, انتظر لبرهة حتى تخفت سرعة السيارات وتفسح له المجال, ولكن الزحام صدّه فعاد يائساً ووقف على الرصيف..
"-هي زحمة الصباح يا أخي.. أنا انتظر من نصف ساعة".
التفت لمصدر الصوت, امرأة تحمل حقيبة مدرسية بيد, وباليد الثانية تمسك ابنها الصغير بحرص. ابتسم وقال:
"- يبدو أن لا أحد يستطيع الوصول إلى الجهة الثانية إلا من ولدته أمه هناك..
ثم أخذ نفساً عميقاً وقرر أن يعتمد على حواسه وعلى ضمير السائقين..
ركز ناظريه إلى جهة اليسار, من حيث تأتي السيارات, ثم وضع قدمة اليسرى على الأسفلت ومشى خطوة, تبعها قافزاً بالثانية, والثالثة هرول, والرابعة بحذر بطيء حتى وصل لمنتصف الطريق, لفحته رياح سيارة طارت من أمامه كالعاصفة, فتصلّب في مكانه ليفسح لها المجال, نظر إلى يساره, كانت سيارة جيب أسود تأتي نحوه بالسرعة القصوى, نظر للوراء, أراد التراجع ولكن السيارات حجزت عليه, شعر بأنه تورط في المنتصف.. سُدّ من أمامه وحوصر من ورائه, فيما صوت محرك الجيب يعلو ويقترب, أدار وجهه للجهات الأربع يبحث عن حيز آمن, بدا مطوقاً إلا من يمينه.. واليمين أن يركض أمام الجيب, أطلق قدميه للريح, ركض خطوة وخطوتين.. أسرع في الجري أكثر, وتوقف. أيقن أنه خسر السباق, فاستدار للجيب وجهاً لوجه ورفع كفيه للأعلى مستسلماً وصاح:"ليس الآآآآآآن..

شوّش صوت الكوابح على صراخه, تلاه صوت اصطدام وحشرجة شيء خشن يتمزق تحت العجلات, ثم هدأت الضجّة. التفت المارّة لمصدر الاصطدام, واقتربوا يتساءلون وعلى وجوههم أمارات الدهشة, وحين وصلوا لمكان الحادث فزعوا لما رأوا, وانقلبت ملامحهم إلى الرعب..
الضحية مسجى على بطنه والعجل الأمامي للجيب يرتكز تماماً على عاموده الفقاري, النصف السفلي من جسده مختفي تحت الجيب, شعره الأسود الطويل يغطي كامل رأسه, ووجهه ملتصق بالطريق.. كفيه مفتوحتان, والنظارة الزرقاء ترتفع للأعلى وتتلوى في أشعة الشمس ثم تسقط على بعد أمتار قليلة.
استغلّت المرأة توقف السير, وضعت الحقيبة على ظهر ابنها, ثم حملته إلى صدرها وأغمضت عينيه بكفها وركضت مسرعة وهي تنظر في الاتجاهين.. حتى وصلت للجهة المقابلة.
والناس يتبادلون نظرات العجز ولا يعلمون ما الخطوة القادمة, ثوان قليلة مرّت, حتى علا صوت بكاء, نحيب فتاة في العشرين تحمل نظارة المدهوس وتقترب منه وهي تصرخ بصوت عال:
"- اشتريت التذكرة.. وغداً موعد الحفلة"
فتح الناس لها الطريق وهم يتألمون للفجيعة التي ألمت بهذه القريبة, تقترب الفتاة وهي تضرب خديها ونحيبها يعلو "تباً للفن من بعدك.. يا ويلي لمن سنطرب بعد اليوم". ظلت تبكي وترثي الضحية حتى وصلت للجثة.. مدت يدها على شعره ورفعت رأسه للأعلى فبان وجهه, ارتعشت الفتاة, وتوقفت عن البكاء, وضعت النظارة بجانب رأسه بهدوء, وانتصبت واقفة, مشت خطوتينً ثم عادت مسرعة إلى باب الجيب وكأنها تذكرت شيئاً, نظرت لوجهها في المرآة الجانبية للجيب.. كفكفت دموعها وصنعت ابتسامة خجولة:
"- عفواً ظننت أنه شخص آخر.. أقصد الحمد للّـ"
وابتعدت وعيون الناس تتبعها وأفواههم مغلقة.

لم تكد الفتاة تغيب عن الأنظار حتى صاح رجل آت من بعيد: "يا الهي.. يا الهي" ويقترب الرجل الذي بفمه سيجارة وهو يتعوذ بالله ويضرب كف بكف:"- هل قلوبكم حجارة.. كيف تتفرجون على فتاة تموت دون أن تمدوا لها يد العون"
شقّ الرجل دائرة المتفرجين ودنا من الجيب الأسود, ثم جثا على ركبتيه, مد يده إلى شعر المدهوس وأخذ يسرحه بحنان وهو يكاد يبكي: "- يبدو أن هذي الجميلة لم تتجاوز العشرين بعد.. أين قلوبكم؟"
ثم يصرخ: "أين هي قلوبكم؟"
وبرفق شد الشعر الطويل للأعلى ليرى وجهها, خاب أمله, صمت لبرهة:"أها.. أها". غمس الرجل السيجارة في بقعة دم وهو يحدِّق بوجه المدهوس, وببطء أعاد الوجه لمكانه على الطريق, ووقف على قدميه وأشعل سيجارة أخرى وغادر من حيث أتى.
دقيقة بعد دقيقة, بدأت معالم الدهشة تتلاشى تدريجياً من على وجوه الجمهور, وملامحهم أصبحت أكثر ألفة تجاه المشهد, صعدوا على الرصيف ليعطوا السيارات حقها في المرور, باستثناء الجيب الأسود الذي بقي مرتكزاً على الجثة, وبدا مائلاً للوراء بمقدار عشر سنتميترات, ولم يأخذ وقفته المستوية المهيبة, فيما الناس يبتعدون ويتبادلون النقاش حول ما رأوا: "- آه لو كان يرتدي القميص الأزرق".
شاب ثان يستنكر: "- ما بك!! هل تتمنى أن يُدهس مشعجي فريقنا؟"
"- لا لا.. أعني لو أنه كان منا, كنا أنقذناه".
يتدخل زميل لهما "- لا تتمنى الشر لتقدّم الخير".
"- لا أتمنى.. انظر إلى تلك المرأة تأتي نحونا.. ساقيها مثل عامودي المرمى".
ينظرون إلى امرأة تقترب وعليها مشاعر القلق, تدنو من أحدهما وتسأله: "- مات؟"
"- لا.. صدره يرتفع ويهبط مثل كرة بين الأرجل".
تغمض المرأة عينيها وتنظر إلى الطريق دون أن ترى ثم تقول "- هل يرتدي بدلة سوداء؟"
"- يرتدي قميص حقير عليه رقم صفر".
تغادر المرأة وهي تتلوى مطمئنة بأنه لم يكن رجلها الذي يرتدي البدلة السوداء.. ثم تستدير للوراء حين تسمع صراخاً, رجل ثلاثيني له شاربان دقيقان يصيح بأعلى صوته, بدا كلامه غير مفهوماً في البداية لشدة غضبه, تدرج صوته وهو يقترب منحنياً وينظر إلى تحت الجيب, ثم ينتصب ويصرخ مؤنباً الجميع:
"- لا شهامة ولا نخوة ولا رجولة ولا أنوثة.. هذا زمن المغني الشاذ واللاعب الذي يُباع ويُشترى"
ينحني الرجل تحت الجيب مرة ثانية وصراخه الغاضب يعيد تسخين المكان, يلتئم الناس حوله في دائرة كبيرة:
"هذه دنية أوغاد.. أما هذا المسكين الذي لا يتكلم ولا يشكو لن ينقذه أحد.. من سينقذ هذا المسكين أيها الجهلة؟
لا أحد!! لا أحد؟"
تقشعر أبدان الناس ويقتربون من الرجل الصارخ وهو يشتم ويدين كل حيّ على وجه الأرض:
"- من سينقذ هذا المسكين الصامت يا حثالة البشر؟ من؟"
يأخذ شهيقا طويلاً ويبصق على الجميع ملء فمه:"- هذا زمن التفاهة"
ثم يمد يده على جيبه ويخرج هاتفه الجوال ويضرب رقماً ما وهو يصيح:
"- من سينقذ هذا المسكين يا حيوانات المظاهر والعري.. من؟ .. ألووو؟ هل تسمعني؟ خدمة الإنقاذ السريع؟
لو سمحت.. يوجد هنا جيب مسكين لونه أسود موديل 2011.. مهشّم قليلاً من الأمام.. يبدو أنه تعطّل"
يملي عليهم العنوان وهو يتحسس الجانب الأيمن من الجيب برأفة وحنان, وإنسانية من النادر جداً أن تتكرر.

***
في آخر النهار, والشمس تغيب, وتسحب لونها البرتقالي من الأفق, لتبدو السماء عارية بلونها الرمادي المظلم, كانت المرأة عائدة من ذات المكان وهي تمسك بيد طفلها العائد من المدرسة, فيما الطفل يحني ظهره للأمام من ثقل الحقيبة المدرسية, تلفتت الأم في مكان الحادث, لم ترَ الجيب ولا الشاب, فقط بقعة طويلة من الدم المتخثر تتخذ شكل جسد, صعدت للرصيف بحذر, فرأت الجثة ملقاة على الحد الفاصل بين الرصيف والحديقة, وجهه في التراب ويداه مبسوطتين بالعرض, فيما أثار العجلات بادية كآثار الحرث على كامل ظهره- باستثناء الرقم صفر الذي بقي متلألئاً بشكله الدائري المقطر ببقع حمراء..
تنقل الأم صغيرها إلى يمناها حتى لا يتأثر بالمنظر, وعلى غفلة منها يشير الطفل إلى الجثة ويسأل:
"- أمي هل هذا رقم خمسة المكتوب على القميص؟"
أسرعت الأم بالمشي لتتجاوز المكان, فكرر الطفل السؤال, أجابته وهي تمشي أمامه: "- لا, إنه الرقم صفر بالانجليزي".
"- ولماذا لا أحد ينقذ الصفر يا أمي؟"
والأم تسرع أمامه, تنفصل يدها من يد ابنها وتركض, والطفل يلاحقها ويكرر السؤال: "- لماذا لا ينقذون الصفر؟"
"- لأنه مدوّر وفارغ وبلا قيمة.. هيا اسرع"
والطفل يركض خلفها ولا يستطيع اللحاق بها, ويعلو بصوته لتسمعه:
"- أُمي.. والعجلة التي دهسته كانت مدورة مثل الصفر"
أٌمه تسبقه وتبتعد عنه وهو يتعب ويبطىء في المشي:
- هل القمر أيضاً مدور مثل الصفر يا أمي؟
- أمي.. الكرة الأرضية تشبه الصفر.
- والشمس التي تشرق في الصباح صفر؟
- رغيف الخبز صفر يا أمي؟
- قبة المسجد نصف صفر يا أمي؟
- أمي.. هل رؤوسنا المدورة أصفار؟
أنا لا استطيع اللحاق بكِ لماذا تسرعين يا أمي... "
يركض الطفل, خطوة, خطوتين, يجري, يلهث ثم يتعثر ويسقط على بطنه, والحقيبة تتوسد ظهره, يتمرغ بالتراب ويضرب الرصيف بيديه ورجليه.. وهو ينظر إلى أمه تختفي بين أضواء السيارات, وينده عليها ويبكي "- أمي لا أستطيع الوقوف هنا.. عودي وعلميني الحِساب يا أُمي".

الثلاثاء، 23 نوفمبر 2010

الأُم



مع إطلالة الفجر, أفاقت الخارطة من وحدتها, نثرت الغبار عن مدنها المنسيّة, ووقفت تتجمل أمام المرآة مثل بنات العيد: زينتي الرصاص الذي أطلق عليّ.
سرّحت شعرها الأسود وجدلته بالأسلاك الشائكة, مدت يدها على الخاصرة ونزعت كبسولة صاروخ قديم, أفرغت منه البارود وكحلت عينيها, لبست القنابل خواتم, والأحزمة الناسفة أساور, ثم عقدت الكوفية على كتفيها, وراحت تتمشى في الشوارع القريبة..
سارت تائهة في الطرقات تسأل:
"- أبنائي أعلم أين هم, ولكن أين الأحزاب؟"
"-.. لم نرهم منذ فترة"
كل إجابة تسمعها تنقص من عمرها قدراً, مشت وفي رأسها الكثير من الاحتمالات, أقلها أن يكونوا ارتدوا ثيابا جديدة وذابوا في حداثة الدنيا.. أو يكونوا هم المارة المتنكرين.

وقفت في آخر شارع يتفرع منه ثلاثة طرق, هزيمة, حياة, نصر, احتارت أين تكمل, فسألت أحد المارة الذي بدت عليه البساطة:
"-أين أجد الأحزاب؟"
"- أنا غير متابع.. ولكن لو سلكوا طريق النصر, لأتوكي مكللين بالغار"
ثم نصحها أن تسلك طريق الهزيمة ومشى حتى غاب في زحمة السيارات, ندهت طفلا يلعب وكررت عليه ذات السؤال, فقال "- هم لم يسلكوا طريق الهزيمة لأنه مزدحم ولا يكفي لضيوف جدد" ثم مشى الطفل يكمل اللعب, لم يبق أمامها سوى طريق الحياة, فأكملت تمشي به وتتأمل حولها السيارات الفارهة والقصور المذهبة, تجار الخبز, والموظفين.. أخذت تقرأ لافتات المحلات وهي تتمنى أن لا يكونوا هنا, حتى اصطدمت بمقهى الحياة, كان مغلقاً . لكن ثلة من الرجال يجلسون على بابه وينتظرونه حتى يفتح, عرفتهم, وقبل أن تقترب لثمت وجهها بالكوفية, فلم يعرفها أحد, رأتهم يصطفون على الرصيف صفين كي يلعبوا ندين, حزب يحمل أوراق اللعب ويتمرن على ترتيبها, والثاني يرمي حجري النرد على الأرض (ثمانية, أربعة), يعيد الرمية (سبعة, ستة) يحتار أي رمية يختار.. فيعلوا صوتهم, يتضاربون بكؤوس الشاي البارد, تحليلات, تنظيرات, مراجعات, ثم يمدون أيديهم يتسولون تكاليف اللعبة وثمن المشروبات..

يأتي من آخر الطريق رجل مهتريء الثياب يمشي من أمامهم ويردد "- كل من عليها خان".
نهروه كي يصمت, فازداد صوته علواً "- اللعب للأحياء والانتماء استنفذه الشهداء".
زاد الجدل وتطايرت الكؤوس, فوضعت يدها على خدها وضحكت - قِمار؟
عرفوها من ضحكتها فقالوا للرجل الفقير "- برئت ذمتنا ها هي تضحك بخير".

حافظت على ابتسامتها ثم وقفت صامتة وغادرت القهوة تتكىء على خيبتها ولا تسمع سوى تكسر الزجاج وصوت الرجل االفقير يصرخ "- كل حيّ هنا خائن حتى تثبت تضحيته". لوحت يدها للفقير مودعة, وابتعدت حتى وصلت لآخر الشارع فهدأ ضجيجهم فجأة "- هل شبعوا؟" سألت والتفتت إليهم فرأت المنقسمين قد اجتمعوا في دائرة حول الفقير, مدوا أياديهم حول رقبته وخنقوه, فصرخت "-ابني..." وقبل أن تكمل أسكتوه بكاتم الصوت. ارتبكت, ظنت الدور سيأتي عليها, فركضت خائفة واختبأت في الشارع الخلفي, توارت وراء شجرة, نظرت حولها لم تر أحداً, اطمأنت لنجاتها, نزعت عن وجهها اللثام, وبكلمات ملؤها التصميم قالت "- أهلي نسوني, والمقامرون يتاجرون بي.. سأعتمد على نفسي".

ثم أكملت المشي في الأزقة وبين الخيام, وضعت عينيها في الأرض خجلا, قاومت يأسها حتى وصلت لمدخل مطبعة, مسحت دموعها بكفيها, وأخفت خيبتها وراء ابتسامه شاحبة, ثم دقت على باب المطبعة..
"- صباح الخير"
فرد العمال: صباح الخير يا فلسطين لم جئتِ هنا
حشرج صوتها وبكت "- أرجوكم.. ارسموني على النقود ليبقى أثري في نفوس الناس".

الاثنين، 30 أغسطس 2010

حتى تشرق الشمس






الساعة الرابعة فجراً, ضوء أسود يسقط من النجوم .. يخترق زجاج النافذة.. ينعكس على عينا "حياة" الواسعتين.. ليشتته الدمع في الاتجاهات الست.. وتفقد الغرفة ملامحها.
فلا يظهر سوى عيون لامعة, تلملم أهدابها المتعبة وتنهض عن الفرشة ببطء, محاولة عدم إزعاج شريكها في السرير, تلامس الأرض ثم تمشي بخطى صامته نحو الخزانة, تمد يدها, وترفع الساعة وتعيد صياغة المؤشر ساعتين للوراء.. للثانية فجراً.
تقترب من الحائط وتدوس مفتاح الكهرباء, فتضاء الغرفة ويظهر الأثاث القديم على حقيقته الباهتة, وجسدها النحيف يستعيد تكوينه, تقف في الوسط كأنها تذكرت شيئا, ترفع حافة قميصها الأخضر وتجفف دموعها, ثم تصنع ابتسامة شاحبة وتتقدم ببطء نحو السرير, تمد يدها على الجسد النائم, وتهمس بصوت متقطع: اصحى.
ينقلب النائم على بطنه متجاهلاً الصوت, فتحني رأسها نحو أذنيه: اصحى.. إنهم يحتاجونك.
بدت كلماتها الأخيرة مثل منبه أتفقا عليه حين يغالبه النوم "إنهم يحتاجونك". انتفض رأسه عن المخدة بلا وعي, واصطدم جبينه القاسي بجبينها الأبيض, ثم بدأ يسعل دون رحمة وكأن صدره انطبق عليه, فتح عينيه فرآها تتحسس رأسها وتتألم مبتسمة, لم يقل شيئاً بل أدار رأسه نحو الساعة, الثانية فجراَ, استمر بالسعال ثم نزل عن السرير بنصف انحناءة, مشى من أمامها وهو يتحسس ألم صدره, وأكمل سيره نحو حوض الماء. راقبت خطواته المرهقة من الخلف فتمنت لو تمتلك ما يكفي من الشجاعة لتصرخ بأعلى صوتها "ستقتل نفسك, عد واكمل نومك يا مجنون" ولكنها اكتفت بدموعها الصامتة, فالأمر محسوم منذ شهر, ولن يتوقف حتى لو ذابت أمامه كالشمع.
سمعته يفتح حنفية الماء, فاتجهت نحو المطبخ, وبدأت تعبث بالأطباق وأذنها مجذوبة إلى صوت الحنفية أكثر, لتسمع تقطع الماء الآتي من الحوض حين يحجزه بكفيه ويحمله إلى وجهه, رتبت الأطباق في سدر نحاسي, حملته وعيناها تائهة في الأرض وغادرت المطبخ, فاصطدمت به في الممر, اعترض طريقها كالجبل الصامت, حاولت المرور ولكن الطريق ضيق, رفعت نظرها بتمعن إلى صدره.. رقبته.. فمه المغلق.. حتى التقت العين بالعين, كل منهما يعترض طريق الآخر يريد أن يقول شيئاً, ترددا بنظارت متأملة, ثم مشى إلى الصالة فتبعت خطواته والصمت يغزو الاثنين.
رتبت الأطباق على الطاولة الخشبية, ثم رفعت رغيف خبز وناولته إياه, مد يده وأمسك بالرغيف حاول سحبه, لم تتركه, بل تجمدت قبضتها عليه, نظر إليها فرأى عيناها تفيضان بالدموع وهي تحدق إلى حروق يديه, بقع سوداء وحمراء مرسومة بعبث من الكف إلى آخر الساعد, أراد مدارات يده إلا انه سحب معها نصف الرغيف, وبقي النصف الثاني بيدها المرتعشة, فعلا صوت نحيبها أكثر, ودون تردد ضرب الخبز على الطاولة, لتندثر الأطباق على الأرض, ثم وقف على قدميه وصرخ بصوت مخنوق: إلى متى يا حياة؟ إلى متى؟
فازداد بكاؤها وتقطع صوتها: إلى أن تتوقف..
اختلط صوت سعاله مع نحيبها, وكل منهما يرمق الآخر بألمه, نظر إليها من الأعلى فرأى أكتافها تهتز ويديها تخبىء دموعها مثل طفلة خائفة, فيما اليد الأخرى ممسكة بنصف الرغيف. فاقترب وعاد يجلس بجانبها, مد يده إلى وجهها فأشاحت عنه للجهة الأخرى, وبرفق لامس خديها فتقابل الوجهان, وجهه الصارم, مع وجهها الأبيض الشاحب, عيونه الحادة مثل نار, وعيونها الباكية مثل بحر:
"-حياة.. أريد أن أتوقف, اليوم هو آخر يوم, اقتربت من النهاية, مع شروق الصباح سينتهي كل شيء, أعدكِ"
ثم ركز نظراته إلى داخل دموعها محاولا السيطرة عليها, وأخذ يحرك أصابعه فوق خديها بالاتجاهين فيحرف مسار الدموع.. يبدو جسدها ضئيلاً بين ذراعيه, ولكن قوة اعتراضها يشعره بأن قامته تكاد تختفي أمام مشاعر امرأة تحبه وتخاف عليه, أما هي فبكاء بلا نتيجة, سماء تمطر كل صباح و كل بكائها لا ينبت ثمرة "لا تعمل" في وجهه.
أحيانا كادت زوجته حياة أن تعلن استسلامها أمام عناده, فكيف توقف توسلاتها رجلاً لم توقفه كل تلك الحروق في جسده.. وكل هذا السعال الذي ينبىء بأن جهازه التنفسي تعطل دون شكوى.. وعيونه التي تحجرت من قلة النوم, فكل ليلة نصيبه من النوم أربع ساعات فقط, وباقي اليوم ينفقه في (القبو) أسفل البيت, حيث عمله الصعب, أما الزوجة حياة, فلا تذكر أنها نامت منذ أسبوع كامل.. في أثناء عمله تجلس في الصالة لتسمع أنفاسه المخنوقه, وسعاله المتصاعد, أما الليل فكان هدنة للقلق.. تتمد بجانبه ساهرة وتتقلب على دقات قلبه, وكل ثانية تمر تظنها الأخيرة, تحدق في العتمة, تستمع إلى نصف أنفاسه وكل أنينه وسعاله الذي يحطمها, إنها زوجة رجل يحتضر بصمت, رجل يعمل كالآلة عشرين ساعة متواصلة, وبعدها يغادر القبو وعلى جسده علامات الهلاك, فيلقي جسده على السرير في الثانية عشر ليلاً, ثم يوصيها بأن توقظه في الثانية صباحا "إذا تكاسلت ولم أصحَ, قولي لي إنهم يحتاجونك", ويشدد في وصيته "فقط إنهم يحتاجونك" ويبدأ بالسعال ويغمض عينيه وينام.. فتتركه لينام حتى الرابعة فجراً وتمشي بحذر نحو الساعة وتؤخرها ساعتين للوراء, وبعدها توقظه على الثانية كما أراد, دون ان يعلم أنها الرابعة, وأن زوجته سرقت له ساعتين لينام أكثر.. وعندما يفيق يجد الوقت كما أوصى..
اصحى إنهم يحتاجونك.
من هم؟ من هم الذين يريدونك؟
- ستعلمين فيما بعد.. تصبحين على خير
فتحدق بجسده المقلوب وتجيبه دون أن يسمع "أنا لا أنام كي أصبح"..
يومها كما يومه, لا يبدأ ولا ينتهي, كلٌ مشغول في عمله, هو في القبو وهي في سهر الخوف والقلق عليه حتى يفيق على توقيته...
بقي محتضنها وهي ترتعش بين يديه, حولهما دائره من الأطباق المقلوبة, ونصف الرغيق ما زال منسيا في يدها, فكرر وعده:
حياة.. نحن نفتتح نهارا جديدا, وأول كلام اليوم يكون صادقا, بعكس كلام المساء الذي أعدت أكاذيبه طيلة النهار.. أعدك, فقط حتى تشرق الشمس.
حين سمعته يكرر وعده, وضعت نصف الرغيف على الطاولة ثم أدارت رأسها لترى كفيه المطبوقتان على كتفيها, حدقت بالحروق فتوقفت عن البكاء, وانقلبت نظراتها من الحزن إلى الشفقة وهي تقول في سرها "أنت لا تعلم الكثير.. لا تعلم أن الشمس ستشرق بعد ساعة فقط.. توقيتك مختلف عن كل الدنيا يا زوجي المؤمن" ثم حدقت في عينيه "المؤمن بجنونه".
- ما بكِ صامته؟
لم تجبه, ولكن ملامحها أصبحت أكثر قوة, رفعت يديها عن الطاولة ووضعتهما على ساعديه وأخذت تتحسس الحروق ببطء, فيما عقلها يحترق بفكرة, فأصبحت أكثر صرامة على غير عادتها المسالمة "الشمس ستشرق بعد ساعة فقط, وهو لا يعلم حقيقة الوقت الآن" فاختمرت فكرتها الصامته حتى انفجرت إلى حل أعظم "ساعة واحدة وسأزف له شروق الشمس.. عندها سأجبره أن يفي بوعده" هكذا ستنجده من هواء العمل السّام, نظرت في عينيه وهو ما زال ينتظر إجابتها, ثم تجاوزته بنظرات حادة إلى النافذة, فأوقفها سؤاله: هل أبدأ؟
- حتى تشرق الشمس, وعد؟
- وعد.
- موافقة ولكن ليس قبل ان تأخذ الدواء. ثم غادرته وعادت تحمل حقيبة الأدوية.. أفرغت العلب على الطاولة, سبع, ثمان, لا يعلمان العدد, سائل للسعال, وآخر لاحتقان التنفس, للحساسية, مرهم للحروق...
لقد أفرغت صيدلية الحارة منذ شهر, الصيدلاني كان يسألها مستغرباً "لمن كل هذه الأدويه, هل تصنعان الذرّة في البيت" فتتلعثم بالإجابة وتدفع الحساب ثم تغادر مسرعة "زوجي وجد عملا جديدا في مصنع للمنظفات" ثم تمشي هاربة من أسئلة الشك: "منظفات؟ الهذا السبب يختفي منذ شهر؟ قولي له الصحة أهمّ من رغيف الخبز" فتظل نصيحتة تلاحقها في مشيتها حتى تصل باب البيت, فتلتفت للوراء وتنظر للصيدلي البعيد عنها مئتي متر "إنه يعمل بالمجان" ولكن الإجابه لم تغادر فمها المغلق.

رفعت إحدى علب الدواء السوداء, أفرغت القليل منها في ملعقة صغيرة, ومدّت الملعقة إلى فمه, ثم تلتها بالثانية والثالثه حتى استهلكها جميعا, ثم وثب واقفا, وبدأ يخلع بيجامة النوم, فيما عيناها ترمق جسده العاري وهي تتمنى لو تعلم ما يخبىء هذا الجسد الصلب من ألم وحطام تستره العضلات والحروق, أكمل ارتداء ثياب العمل المحروقة هي أيضاً. ثم مشى متجها نحو السلّم الذي ياخذه إلى الأسفل, يمشي متأنيا دون ان يلتفت إليها..
فاوقفته هامسة: لن تنسى وعدك؟
وأدار وجهه إليها وابتسم: لن أنسى.
- حتى تشرق الشمس؟
- حتى تشرق الشمس..
وأكمل سيره, وضع أول أقدامه على الدرج فأخذته العتبات إلى الأسفل
بقيت تنظر مكان اختفائه حتى سمعت صوت فتح الباب ومن ثم إغلاقه, فبدأت تلملم علب الدواء ورتبتها في الحقيبة.. وضّبت الطاولة.. وأعادت الأطباق التي لم تؤكل إلى المطبخ..
بدأ ضجيج الآلآت يعلو من القبو, صوت اشتعال, وصوت مطرقة تضرب معدنا صلباً, فاطمأنت لانشغاله, عدّلت مؤشر الوقت وأعادته لحقيقته, ساعتين للأمام.
وأخذت تدور في الصالة, لا شيء تفعله سوى الانتظار, نظرت من خلال النافذة, كان الضوء ينتشر بخجل, ولكن الشمس ما زالت مختبئه وراء جبل ما ".. لو كانت الأرض مستوية لما غابت الشمس عنا كل هذا الوقت" فتمنت لو أنها تشرق قبل أوانها, لا يهم من اي اتجاه تأتي, شرقي أو غربي, المهم أن تعلو الأفق مثل برتقالة جريئة توقفه عن عمله القاتل, هو أكثر أهل الأرض حاجة لضوء حقيقي وهواء نظيف, وقفت على الشباك, فتحته, ثم مدت يدها إلى الخارج تريد سحب خيط من الضوء وتأخذه إليه وتصرخ ضاحكة "توقف كما وعدتني" ثم تحتضنه وتأخذ نزهة طويلة في الضوء.. قبضت يدها على خيط وأدخلته من الشباك, فتحت كفيها ونظرت, كانت يدها بيضاء من غير ضوء...
أخذ أملها بالاقتراب, ذهبت إلى حوض الماء, توضأت, ثم عادت مسرعة إلى الصالة, افترشت سجادة الصلاة نحو الجنوب.. ودّت لو أنه شرق يناظر الشبّاك, فلا شمس تأتي من الجنوب, بدأت تقرأ, تسجد, ثم تركع, ثم تقف وتعاود السجود وتقرأ وتتمتم, ثم ترفع كفيها وتدعو, ثم تركع, فتسمع صوت سعاله يعلو فيضيق صدرها وتلصق كفيها على الأرض بكل قوتها, كررت الوقوف, شابكت كفيها وقرأت كثيراً ثم سجدت, شعرت أن الجو ازاد حرارة, فتساءلت في وسط الآية "هل أشرقت الشمس" ثم أكملت القراءة, فسمعت صوت احتراق اللهب يعلو ثم يتبعه ضرب المطرقة, يعلو ثم يتوقف, فركعت للمرة الأخيرة, توقف صوت الطرق.. عمّ الهدوء كل زوايا البيت, بقيت راكعة وصامتة, فسمعت خلخلة مقبض الباب يفتح, ودبيب أقدام تصعد عتبات القبو, انحبست أنفاسها تنتظر شيئا قادما, فأتاها صوت من القبو : لقد انهيتها يا حياة
ثم سعل وضحك بصوت عال: انهيتها قبل الموعد..
هذا صوته, المرة الأولى التي تسمعه يضحك بكل هذه الجرأة, تمنت لو تضحك معه ولكنها تصلي, ألصقت جبينها بالأرض لتخلق ألماً يمنعها من الضحك, وصوته اختلط بالضحك والسعال " أنهيتها يا حبيبتي.. تكفي لتخليص الأرض من خمسة جنود..
ثم يضحك كالمجنون: تكفي لتخليصكم من خمسة جنود بكبسة زر...
غاب صوته, وبلا وعي رفعت رأسها من الركوع قبل أن تكمل صلاتها, رفعها الفرح عن السجادة, وجدت نفسها واقفه دون إرداتها, وقفت تضحك محتارة في أي اتجاه تمشي, نظرت من الشباك كان الضوء يزداد انتشارا ولكن بلا شمس, علت ضحكاتها أكثر وأسرعت نحو القبو.. نزلت عتبات الدرج بسرعة, كادت تسقط, وجدت الباب مفتوحاً فتمهلت في المشي, ودخلت الباب فاتحه ذراعيها تريد أن تحضن كل من يقابلها, لفحتها رائحة اللهب والبخار.. فأغلقت عينيها, تلفتت في القبو, لم ترَ, فمشت بسرعة من بين المعادن وأدوات الحرق التي بقيت مشتعلة "أين أنت؟" تسأل فيرتد صوتها محمولا برائحة النار التي تملأ المساحة, ثم رأته جالسا في الزاوية, تبدو عليه ملامح الراحة, يبتسم كأنه أخذ نفساً نقياً للمرة الأولى, اقتربت فاتحة ذراعيها, بقي على ابتسامته الهادئة, فهدأت خطواتها وجلست بجانبه وقالت "أخيراً رأيتك مرتاحاً" مدت يدها ببطء ولمسته فشعرت بجسده ساخنا, ورائحة البارود تشرق منه مثل وردة حرب, ندهته لم يجب, نظرت فوقه فرأت آثار أصابعه وقد خطت بالبارود دائرة كحلية تشبه الشمس. فاحتضنته وهزته بكل قوتها, فازدادت ابتسامته اتساعا ولم ينطق, دارت بها الدنيا, لم تستطع تمييز ما يحدث, جثت على ركبتيها واحتضنت رأسه بكفيها وهمست: اصحى..
لم يستجب, تذكرت كيف توقظه حين يغالبه الكسل, فمررت يديها على كامل جسده الساخن وهمست "اصحى..إنهم يحتاجونك" كانت المرة الأولى التي تتمناه أن يصحى, شعرت بأن نومه اختلف الآن, اصطدمت بشيء معدني مربوط على ساعده, رفعت يده لترى من وراء الدموع "ساعة؟", حدقت بها أكثر فوجدتها متقدمة ساعتين عن الوقت الحقيقي, السابعة صباحاً, انسابت دموعها المالحة بين شفتيها, شعرت بالعلقم الذي لم يلطف مذاقه سوى ذاكرة خفيفة أعادتها يومين للوراء حين احتضنته وهو يبدل ملابسه:
- البارحة حلمت بأني نظرت للساعة فوجدتها بمؤشر واحد.. هل أقلق؟
- تحولت إلى بوصلة.
- ماذا تعني؟
فنظر إلى الأعلى: تعني الحقيقة الواحدة مهما أتت متأخرة.
كان جسده ساخناً كما الآن, حروقه, ودموعها كما هي, لا شيء تغير سوى صمته, الآن علمت بأنه الشخص الوحيد الذي يعلم ما يريد من هذا العالم, وها هو مرتاح بعد أن أنجز عمله كما لو يفعل غيره من قبل, فابتسمت مثله ليتشابك البخار بين الوجهين مثل غيمة أصابتها بالغشاوة, فتمتمت متوسلة "أرجوك أن تصحى.. ما زالوا يحتاجونك", بدت ملامح وجهه تتحرك راسمة ضحكة عنيفة وصامتة على كل شيء حوله.. فألصقت كفيها على صدره ثم ركعت أمامه وصرخت بأعلى صوت للحزن: اصحى.. إنهم يحتاجونك.
ارتد صخب النداء في القبو مشبعا برائحة اللهب والبارود.. انبعث من الشباك لينتشر كالضوء من فوق البيوت النائمة.. تمادى الصدى حتى اصطدم بمحرك دبابة لا تنام, وتقطّع: اصحى إنهم.. ي ح ت ا ج و ن ك.

المصيدة




دق العجوز وتد المصيدة في السهل, ثم ارتدى معطفه المهترىء وصعد إلى سكنه الدائم في أعلى الجبل, وهناك لملم الحطب وأشعل نارا هائجة لشواء ما تجود به الأرض, ثم تمدد داخل الكهف فغالبه النوم لساعة واحدة أفاق بعدها على صوت لم يستطع تمييزه..
أطل من مكمنه المطل على المصيدة, فرأى فريسة تتلوى في الفخ, حمل الخنجر وهبط عن الجبل بسرعة الريح يتخبط بالصخور " ليته غزال.. ليته غزال" بقي يمني نفسه حتى وضع قدميه على أول السهل, أخذ نفسا طويلا من الراحة ثم نظر إلى المصيدة بعيون جائعة, فكانت الفريسة شاباً, صفعت الخيبة أمله, فأكمل مشيه نحو المصيدة ببطء: " بشر؟ يا لكم من صيد سهل وعديم الفائدة" ظل يرددها بسخط وهو يلوح بالخنجر حتى وصل الشاب "أين كنت تنظر؟ للأعلى..آه؟ وتنسون الأرض..
حاول الشاب الوقوف ولكن السلسة القصيرة شدته فسقط فوق العشب, أخذ يتحسس أسنان المصيدة المطبقة على قدمه اليمنى: من ساعة وأنا أصرخ..
تبدلت ملامح العجوز من القسوة إلى الشفقة "وهل الصراخ يفك قيداً" ثم انحنى نحو الشاب واخذ يتحسس جرحه الذي يقطر دماً "ليتك استغليت تلك الساعة وحاولت الخلاص
- حاولت ولكن النزيف كان يزداد...
وقبل أن يكمل قاطعه العجوزغاضبا: "وحين تكف عن المحاولة ستبقى تنزف بلا فائدة", ثم شد إصبعه على الجرح وسمر وجهه بوجه الفتى:
- دم هذا الذي يسيل بلا مقابل أم ليس دماً؟
- دم دم.
- نعم دم لا يحقق شيئاً, لو ضحيت بالمزيد منه لخلّصت قدمك
- ولكني انتظرت أحدهم حتى يأتي..
لم يرق الجواب للعجوز, فتجاهل أنينه ومشى مبتعدا يدوس العشب, ودون أن يلتفت قال "افترض أن لا أحد هنا.. ستبقى هكذا معلقاً مثل فريسة تنتظر آكلها؟"
وأكمل خطواته البطيئة حتى وصل أول سفح الجبل, ولكن فكرة ما اقتحمته فتردد قليلاً ثم عاد إلى المصيدة, استل الخنجر من وسطه, واقترب من الشاب, "ليتك غزال", نظر الشاب إلى الخنجر يلمع في الشمس فتراجع للوراء مرعوباً, فيما العجوز يدنو منه ببطء, رفع الخنجر للأعلى ثم أغمد النصل في التراب وأخذ يحفر حول الوتد حتى بان كله, سحبه من الحفرة ثم رماه في حجر الشاب "هيا انطلق أنت حرٌ الآن".
تململ الشاب وهو ينظر إلى أسنان المصيدة المطبقة على قدمه: حررني من أسنان الفخ.
- لا, سأعطيك حرية الحركة فقط والباقي عليك
حاول الشاب معه, ولكن تصميم العجوز كان يزداد "المصيدة هديه لك" ثم أقنعه بأن الهدايا لا ترد, خجل الشاب أن يتوسل أكثر, حمل الوتد بيده اليمنى, ثم وقف على قدم واحده فتعلقت رجله التي تنهشها أسنان المصيدة في الهواء, وانطلق يقفزعلى الرجل الناجية.. يبتعد ثم يقع ثم يقوم ثم يتعثر..
أما العجوز فصعد إلى مأواه في أعلى الجبل, نظر إلى السهل فرأى الشاب يتأرجح حاملا قيده بيده ويعرج كالكونجر, فهز رأسه يائساً "سيتصفى دمه قطرة قطرة" ثم وضع كفيه حول فمه كالبوق وصاح في البرية بأعلى صوته:
- الدم القليل يذهب سدى, المزيد منه يحقق ما تريد.

الأربعاء، 30 يونيو 2010

مِنشار المذاهب



أحذني صوت الصراخ فركضت, وسرت مع السائرين مثل رصاصة ساخنة, شارع ينشقّ عن شارع, وزقاق يتفرع من طريق,أجري، أطارد، أتحوّل إلى ريح, كلما ضاق صدري تعباً اتسع فضولي, كان الباكي المستغيث يصرخ عبر مكبر الصوت, وينده طالباً النجدة, هل الصوت يأتي من الجامع فعلاً؟
أسأل, ولا إجابة من الراكضين حولي مثل الظل, أحدهم يشير إلى الحي الشرقي من المدينة:
الصوت يأتي من هناك, من الجامع؟
لا وقت للإجابة, فالأقدام المسرعة تضج والعيون تنظر إلى اللامكان, فقط الأذن هي من تقود, من حارة إلى حارة، وكلما انقطعت أنفاسنا يعلو الصوت أكثر, حتى أصبح مفهوما من بين دموع الصارخ <<النجدة يا بشر>> تتبعنا الصوت وتقلبنا فوق بعضنا البعض, ديست الأبدان على الرصيف ولكنا أكملنا من فوق الحواجز حتى اصطدمنا بمدخل الجامع مصدر الصوت, للوهلة الأولى هدأت فتنة الأقدام, وتوقفت مع الواقفين على باب المُصلى, نظرت إلى الداخل, رأيت المصلين يلتفون في حلقة صوفية حول شخص مسجّى على الأرض, وكأنهم قبضوا على متسلل, قبضاتهم ترتفع بالهواء وتهوى خاطفة في الوسط حيث الهدف, أما الراكضون فكانوا يدخلون للاستفهام عن المضروب, وما أن يسمعوا الجواب حتى ينقضوا ويشاركوا بالضرب, سمعت أحدهم يهمس <<أنهم يضربون الشيخ>> ثم يهجم القائل ويطير في الهواء فيهوى وسط الدائرة على رأس الشيخ تماماً. هل أصبح الضرب في الجامع عبادة؟!
سألت ولا إجابة, الجميع مشغول بجسد الشيخ الذي يتلوى بين أرجلهم مثل كرة يتبادلها الحفاة, وكل ضربة لا تصيب الشيخ كان يستغلها ليحبو على رؤوس أصابعه فيلقي بجثته على المنبر ويصرخ " … help me يا اخوان" يتكاثر الجمهور ويزداد الضرب ولا منجد ..
شيء من الشهامة قاوم ترددي, فخلعت الحذاء ودخلت إلى وسط الحلقة, وبكل ما أوتيت من نفاق ومجاملة ورجاء استطعت تخليص الشيخ من بين أيديهم المضرجة, حملته على ظهري لإنقاذ آخر ما تبقى منه وأسرعت مغادرا المسجد, أوقفت سيارة أجرة وحشرته عنوة في الكرسي الخلفي وجلست بجانبه, انطلقت السيارة مسرعة من بين حشود الغضب, وفي الطريق نظرت إلى وجهه للمرة الأولى, للحيته المصبوغة بالدم النازف من رأسه المشقوق, لعمامته الممزقة كقميص عثمان, لوجهه المقسّم كخارطة, لم ضربوك يا شيخنا الجليل؟
حاول الإجابة, ولكن أسنانه اصطكت ألماًً فسال الدم قانياً من فمه.
كررت السؤال: لم أسمع بالذي حدث لك منذ عصر الفتن, لم فعل المصلون بك ما فعلوا؟
نظر إلي وتمتم بما لم أفهم, يا شيخ.. هل اكتشفوا أنك تؤم المصلون بلا وضوء؟
حرك شفتيه فكان صوته هواءاً ودماً, اقتربت منه لأسمع فألقى بجسده عليّ ثم مد يده المرتعشة إلى جيبه وأخرج قصاصة من جريدة, نظر إليها حزينا ثم قدمها إلي ببطء, أخذتها منه وقرأت السطر الوحيد فيها:
اشتم الشيعة ليدفع لك السنة, واشتم السنة ليدفع لك الشيعة, وإذا شتمت الإثنين معا سيدفع لك اليهود.
ألقيت الورقة من شباك السيارة ثم اتجهت إليه, وأنت شتمت من؟
رفرف الشيخ بعينيه وشهق محاولا استجماع قواه للنطق:
- شتمت ال...
ثم سكت هامدا.
وإلى الآن لا أعلم شتمّ من ولأجل ماذا؟ ولا أتذكر من كله سوى قصاصة الخبر وفمه المليء بالدم.

السبت، 5 يونيو 2010

أنبياء في المعرض الحربي





يُقال بأن أمه لم تكن امرأة. كانت غزالة وماتت ساعة الولادة، وأن التي ارضعته غيمة طائشة. ويُقال أن أبويه كانا بشراً وأن خسوفاً قمرياً وفر لهما ظلاً لخلوة إنجابه.
ويُقال أن ذئبة عوت ليلة ولد فشهقت وعاشت إلى الآن تحتضر .
ويقال:
ولد وحيداً لأبوين وحيدين، من عائلة واحدة كُذبّت كل أساطيرها، وهذا يكفي لتفرده المعجزة، يحيى كما الأنبياء البسطاء، أمعاؤه حُرمت البيت، وهو المُحرِم.
لا أحد يحاصره -كما يُدعى، نفسه هي التي تحاصر جسده بأقفال الرفض، وحين يجوع يطلق مكابح قدميه ويلتهم بأسنان الحذاء كل الشوارع الجبانة.
يمشي، يسير، ينظر، يطير، ليس أمامه سوى الطريق، على يمينه امرأة جميلة تلبس طرحة سوداء وتنده : فستان زفاف غير مستعمل للبيع !
سألها: كفنٌ أبيض هذا أم فستان ؟
لم تجبه، فأكمل الطريق، كل الصور أمامه متجمدة، حافلة الجيش تسرع في مكانها، العلم يشبه السارية، مياه النهر متوقفة، كل المشاهد ثابتة، يتوهم هو؟ ربما. فتح كتابه وقرأ سورة الغاشية، فانقلبت الرؤية، ذات الحافلة تطير والعلم يخفق مستلسماً للهواء، ومياه النهر تصعد للغيم...
يتناقض هو؟ لا يمكن!
اندفع في وجهه مبنى اسمنتي، طارده كالماضي، كاد يشقه نصفين لولا تعلقه بالباب النحاسي وصعد (أهلاً بضيوف المعرض الحربي) خالِ من الزوار باستثناء دليل سياحي يمسح عن الصور الغبار، خمس صور ثابتة وهو الوحيد الذي يراها متحركة، شكر نعمة الشك .

(اللوحة الأولى)
صورة قديمة لسيناء، التقتطها طائرة معادية، فيها موسى يصعد جبل الطور، ويكلم الله في أمر الخلق، وعلى الرمل عشرة جنود يقيمون صلاة الظهر، ثم ينتصبون ويرددون الأدعية، أنا الوحيد الذي يسمع الأدعية..
جندي أول: حاصرونا؟
جندي ثان: خانتنا الأسلحة؟
جندي ثالث: سنتوحد في الرمل ونكون ملوك الصحراء !
ورددوا جميعا: خذينا يا عروبة، يا قضيتنا العادلة.
أتت مجنزرة من الخلف يقودها (وحيد العين*) قرأ تلمود الحرب على سيناء، ودهس الأسرى،
وصلت رائحة الدم إلى موسى على جبل الطور، فهبط يتعثر بالرمل، لملم أشلاء الشهداء ثم طلب من اللة أن يراه، لم يستجب الله، ولكن, يداً خفية جمعت لحم الأسرى وأُعيد الخلق، ثم طاروا في سمائه كالحمام، اطمأن قلب موسى فركع لله وصلى.

(اللوحة الثانية)
صورة ملونة لسيناء، التقتطها سائحة محايدة، فيها يوسف يعمل عتالاً في القصر، يستورد القمح من الميناء ويبني أحجار الصوامع.
لا صوت يأتيني منه، يوسف جميل وصبور، احترف الصمت.
شرقي الصورة عشرة جنود يدوسون الرمل، ويرددون أغنية مستوردة، كل الأرض تسمع الأغنية!
جندي أول: نحاصرهم؟
جندي ثان: نفذوا أوامر القصر.
ورددوا سوياً: خذنا يا نسيان، يا سيد الدبلجة.
حلقت فوقهم طائرة يقودها (وحيد العين)، قرأ تلمود السلم على سيناء، وحرق "غزة".
صَرخت: يا يوسف دع القمح، اللحم المحروق أهم!
- قد ردائي من دبر
يا يوسف, شرف الدم المهدور أهمّ!
امرأة فرعون راودتني!
الكل مشغول بالقمح ونزوات سيدة القصر!
رفعت القلم وعلى الصورة كتبت : مصر غادرت مصر و(ديّان) ما غيّر البوصلة.
أتناقض أنا؟ ربما, أكذب؟ لا يمكن، كل العالم رأى الصورة عارية.

(اللوحة الثالثة)
صورة قديمة لليلة الإسراء، منزوعة من كتاب، فيها النبي يفك قيد العبيد ويعمر الصحراء، التف عليه من الظهر سفهاء القوم، مزقوا ثيابه، شجوا رقبته، وأطلقت البنادق الطائفيه عليه النار، فأتاه ملاك الحرب منجدا، أؤمرني أطبق الجبلين، نهاه واستلقى مغلوباً على الرمل غرقاً في دمائه، وفي المنام أيقظه طائر مجنح، بسبعين شراع، ترك النبي وصيته على الرمل {النار أن تحفظوا اسمي، الجنة أن تتبعوني} ثم اعتلى الطائر وسافر إلى الصخرة، وهناك كان ما كان..
يقولون هدنة حربية، قالوا رحلة استجمام، وقال السفهاء إنه لم يغادر البيت الحرام، وحين عاد وجد رسالته ممزقة ومدقوق في نحرها سيف وكلماتها مقلوبة {النار أن تتبعوني، الجنة أن تحفظوا اسمي}
فتداولت عجائز قريش الرسالة الثانية, وانتشر الإسلام مقلوباً في الصحراء.
أسفل الصورة كان مكتوباً، حقيقة ما وصلتنا خطأ، أو خطأ ما أوصل لنا الحقيقة.
شطبت الجملة وعلى أنقاضها كتبت:
نحتاج لنبي يدعونا ألفي عام!

(اللوحة الرابعة)
صورة حديثة لليلة الإسراء، لا أنبياء فيها، الأرض هي الدعوة، والأطفال يحملون فوق ظهورهم صخرة، كلما تلوحت في الهواء، تمدد أحدهم تحتها ورفعها عن التراب، فينصهر لحمه كي تبقى معلقة.. حتى قاربوا على الإنتهاء، تصدعت الشروخ في الصخرة، ومؤشر الأرض يترنح تعباً منبئاً بزلزال.
قال مؤمن من أرض النبي: أطفال حالمون.
مؤمن ثان : يريدون جرنا للمعركة.
مؤمن ثالث: الأرض في استقرار
كان مكتوباً، ذرية أبهرة الحاكمة.
أسفل الجملة كتبت: لا يؤمن أحدكم حتى يحمل السيف ويقلب <العائلة>.

(اللوحة الآخرة)
القائد المهيب معلق بنخلة، تلتف حوله كتيبة مقنعة: اشهد بأننا آلهة الأرض.
قال: أحدٌ أحدٌ، لله الأرض من قبل ومن بعد.
تقدم كبيرهم وعضّ الحبل، كل خيط تمزق ينسج فكرة، فهوت به المشنقة، اخترقت روحه الفرات وإلى الأعلى طار الجسد.
تجاوز سماء المحكمة، أعلى السحب، فوق الصمت، طار وراء الشهب
صرخت: يا إلهي هل يعرج هذا المشنوق إليك ؟ ابن من هذا الآدمي ؟
اقترب مني دليل المتحف وهمس: كاد يكون نبياً، هذا القائد لم يكن مسيلمة.
أمسكت القلم وعلى اللوحة كتبت: قائدنا الذي في السموات، كل أهل الأرض هزموا إلا أنت وهذه الصورة حسمت المعركة!
*****
توقف المعرض الحربي في ذات الشارع، وأنزله على ذات المحطة، وضع قدمه على الرصيف، فارسترد صوته مني أنا المترجم الأميّ، وقال: إذا تمهلت الحياة قليلاً سأستقيل يوماً من حصاري.
ثم وضع قدمه على الشارع فكانت الدنيا تدور مسرعة.
المرأة ذات الطرحة السوداء تحمل قطعة خبز وتختفي خجلة، وبائع خبز يفترش فستانها الأبيض، ينده ويتألق بالصوت : فستان زفاف مستعمل للبيع.
نظر إلى الفستان كان على الفخذة بقعة دم متوهجة!
بكى، إذاَ تمت المبادلة!
ثم أكمل سيره عائدا لحصاره الاختياري، وحتى يصل سالماً رفرف متنكراً بين المستبيحين والمستباحين كالإمعة.




----
وحيد العين: الصهيوني الأعور موشي ديان الذي داس بالدبابات أسرى الجيش المصري وهم أحياء. حرب 67

الأحد، 9 مايو 2010

رسائل ليلة الميلاد







أنقل إليكِ هذي الرسالة بالمجان.. مثل كل المعجبين بفقرهم.
أحدهم يشبهني بالملامح, أرآه منذ سنين يفترش قارعة الطريق وينتظر شيئاً لا يأتي.
البارحة أصبحت صديقه, فأخبرني بسره العظيم:
كان أول قسم في حياته أن يخرج أحشاء الرئيس, ويجرها في أزقة مخيّم ما, ثم يدعو المنهوبين للعبة شدّ الحبل. ولكن أمله خاب حين شارف الرئيس على الموت الطبيعي.
فلم يبق لصديقي سوى أن يمارس لعبة شدّ شعره على عمره الضائع.
وربما كنتِ أجمل أحلامه الضائعة.

"النهار لا يحقق أحلام البسطاء"

***


قال: في زحمة الأرقام, من يتذكر يوم ميلادك الماضي, اعطه نصف العمر.

قلت: من فينا يتذكر يوم ميلاده في زمن عقوق الجذر، وأرقام السيارات.. وبطاقات السفر. من فينا؟

قال: من نسي ماضيه فليرجم أُمه ويقيم عليها الحدّ، فالماضي هوية الرحم، والنسيان وليد المغتصبة الراضية، أما التذكر فمهارة الشرف الباقية.

قلت: من فينا الآن يتذكر يوم ميلاده, وعلى أي أرضِ سقط رأسه, وأي سكين صدأ قطع حبل السرة؟! من فينا يا رفيق الطريق من فينا.

قال: أنا أتذكر كل ما فيها, مثل شهوة أفق. أتذكر لدغتها بحرف الراء -واء-. تنورتها القصيرة وهي في العاشرة، غمّزات الخدين, وخجل الخدين من الأقرباء. أتذكرها بالمجان مثل كل الخاسرين الحافظين وعودهم, وغداً ستدخل عامها الرابع والعشرين. لا أعلم عن ثلث عمرها الأخير شيئاً.. كبرت ثمان سنين بأنانية السر.. وغدت ذكرياتي معها مثل مفتاح اللاجىء, لا يفتح شيئاً ولن يغلقه النسيان. ربما علمها غيري لغات جديدة لا (راء) فيها.. وربما طولت تنورتها لتداري أثر عيني. يخونني التخمين..

قلت: وهل يهم اللاجىء إتساع بيته المسروق غرفة أو غرفتين؟

قال: للذكرى تقاطيع الراحة. اللوم سمٌ للنسيان. وكلمات النشيد وطن المبعدين. أتخيلها الآن عائدة من الوظيفة, في يدها اليمنى ربطت خبز, وفي اليسرى حزمة شمع, والحضور كل الأهل ما عداي, يغرسون أربع وعشرون شمعة صغيرة في الكعكة الكبيرة, يقترب شقيقها الأكبر ويشعل شموع الميلاد, ثم تقترب هي من بين أخواتها الصغيرات,
تأخذ نفساً عميقاً وتنفخ في النار, ولكن ولا شمعة منهن تنطفىء.. فتعاود الكرة بعاصفة أكبر, ووسط تصفيق الجميع تضحك منتصرة, ظنت أن جميعهن أنطفئن , ولكن همس الحضور يقلقها, لتفاجأ بأن ثلثهن لم ينطفىء. الشموع الثمانية اللاتي كبرن في بعدي يبقين مشتعلات ويبكين.
ست عشرة شمعة منطفئة لن تكفي لإتمام الحفلة.

"النار تأبى أن تأكل حق الغرباء"

***


كل ما حولي يغريني بالنسيان, حاولت مراراً الهروب إلى غيري, إلا أن نسياني الدائم يوقفني, وإشارات الوقوف تصنع الهوية, البارحة حاولت الركض مع الريح. مشمئلاً. مغرباً, ولكني تعثرت بالرمل وسقط, فعلمت أن الذي أوقعني نسياني فردة حذائي في البيت, وفي الهروب لا تكفي الفردة الواحدة, فعدت منتصراً على النسيان وشاكراً فقر المحاولة.

اليوم علقت الفردة التي هربتني على باب البيت, لألقي عليها تحيتي العسكرية كل صباح: عمّ صباحاً يا رئيس البلاد المجاورة!
- ......... (صمت)

وأنتِ.. كيف هربتي مني يا أنا؟
- طول الإنتظار؟ - وهل للإنتظار حدودود؟
- الفرصة المناسبة؟ - لم لا نصنعها نحن؟
- الشاهد والمأذون حضروا فجأة؟ - انتحار جولييت أحيا الرواية؟
- ضيق الأهل؟ - كيف يقطع الأهل أجمل ورود الدار؟
أم أني الوحيد الذي رئاكي وردة ؟ .... هل أنا الأهل أم غبار الأقارب؟
من أنا يا أنا المغتربة؟
_ ...... (صمت)


****

غداً, ستدخلين جريئة عامكِ الرابع والعشرين, الشمس فوق البيت تنسى أن تغيب / تخجل ضوءً. وعلى الطاولة كعكة الميلاد المستديرة, والحضور أنتِ والعائلة وشخص غريب لا أعرفه أخذ مكاني, يصفق الجميع, والغريب الحاضر يحمل طبقاً فارغاً وينتظر القسمة. تمتشقين سكيناً حاداً للقطع, والكل يرقب الجميلة المسلحة, تقتربين ببطء الواثقات بكيدهن, وتطعني الكعكة مثل قاتل, فتنقسم لثلاثة حدود: الثلث الأول لكِ ولوالديك. والثلث الثاني لأخواتك الجميلات...

يقترب الغريب الحاضر للثلث الثالث, يحاول رفعه عن الطاولة فلا يقدر: لأنه حقي الثقيل القاسي المرّ, وإن انحنى مثل ذئب لأكله.. ستتكسر أسنانه عليه وتفشل المحاولة.

"فالله يحفظ حقّ الغرباء"


*****

الليلة, سأغير ملاءة سريري الغريب, وأتمدد مثل أطفالك الآتين, أضع الساعة قرب طفائة السجائر وأرقبها مثل منبه قنبلة توشك على الإنفجار.. والعقارب سيفان يلتقيان, وقبل أن تغلق الساعة الثانية عشر إلا دقيقة سأسحب البطارية وأوقف العدّ, وتبقى طول العمر ثابتة: الثانية عشر إلا دقيقية.

آه كم أحتاج تلك الدقيقة لأقول لكي: لن تكبري أكثر, ستبقين ناقصة .

أربعة وعشرون عاماً إلا دقيقة واحدة بقيت لدي.

"لا شيء فيكي سيكتمل في بعدي"


*****

سيسافر النهار غداً بهدوء, تجاوزتي يوماً حافلاً, لقد فتحت سنة جديدة حلم بها الكثير من المتجمدة أعمارهم, ولكن قبل النوم ستتذكرين شيئاً: " لم يحمل تلفونك المحمول تهاني العام الجديد".

فتنتفضين من السرير مسرعة: "هل كان مغلقاً؟"

فتجدينه مفتوحاً وجافاً من الشعارات, تأتيكي فكرة آثمة بأني عطلت شبكة الإرسال. لالا, كل شيء على ما يرام, ولكن يبدو أن لا أحد غيري يتذكر تاريخ ميلادك, وأنا فقدت الرقم والعنوان.

"وما زال في الأرض شفاء"


****

البارحة حلمت بمشهدِ غامض, زارني صديق الطريق مصلوباً بين حرفي "لا", كان حزيناً ويرثي وردةً قطفتها له غجرية, قال " كيف تتمنى لي العمر/ وهي تجود بأنفاسها الآخرة"!!

لو أني لم أفق من الحلم لرجوته بدرسِ من الشعر - كي أرثي المختطفة, بأسلحة السطلة الفاسدة.

الاثنين، 3 مايو 2010

نسل جبان


المستشفى هادىء مثل قبر، يبدو أن لا أحد يمارس البطالة اليوم سوى ثلاثة: المُستضعَفين، والصحفيين، ونحن الأطباء.. كدنا نعيا. وفجأة جاء الفرج، سدّ مدخل المستشفى حشد من الناس يحملون مصاباً، نظرت إليه، كان شاباً وسيماً في العشرين من عمره ويرتدي قميصاً أسوداً ودمه ينزف مثل ماء زمزم، أما ظهره فمخروق برصاصة واسعة الأثر، حملناه وأسرعنا به لغرفة العمليات، ثم أسندناه على السرير برفق، وقبل ان نخلع عنه ملابسه أعطيناه إبرة ضخمة من البنج، وكلٌ منا رفع عدته المعدنيه للبدء، ولكننا تراجعنا حين رأينا خطورة الإصابة.
إن ظهره مخروماً بإتقان والجرح مشوّه، ودمه الأحمر مختلط بسواد الحروق، فاستدعينا عجوز الإطباء المختص بالعمليات الحرجة، وجاء الحكيم مسرعاً، اقترب من المريض، وقبل أن يباشر العمل، توقف فجأة، شدّ القميص انتباهه، فأخذ يقلّبه، قلّب القميص أكثر من مرة مثل ترزي.. ظهرت علامات اليأس على وجه الحكيم، فخلع قفازيه وأحنى كتفيه، ومشى ببطء مغادراً غرفة العمليات، فركضت وراءه مسرعاً:
- ألن تبدأ العملية يا دكتور؟
فقال دون أن يلتفت: لن تنجح
- لنحاول!
- حتى لو حاولنا لن تنجح..
- لماذا؟ لقد عالجنا إصابات أشد خطورة منه.
أكمل الحكيم خطواته المسرعه حتى وصل باب المستشفى وهو يحاكي نفسه بصوت عال:
لقد توفيّ والده بين يديّ قبل عشرين عاماً، وكان يرتدي ذات القميص الأسود ومصاباً بذات المكان في الظهر، دعوه يلحق أبوه، اتركوه ينفذ الوصية.
ثم ألقى قفازيه على الأرض وصرخ يائساً "عائلة لا تتعلم.. عائلة تُهاجـِم بظهورها.. عائلة لا تـتقد..م..."

الثلاثاء، 20 أبريل 2010

جسد مريم





بيتٌ فقير كأشجار الخريف, أرضه تراب وجدرانه عارية من الألوان, لا يزينها سوى ثلاث صور؛ خارطة منسية, وآية الكرسي, وصورة لطفل صغير لم يأتِ بعد.. والزوجان يسترقان النظر على ضوء الشمعة ويتساءلان بصمت: ماذا سيحدث الآن؟
مريم ممدة في الشق الأيمن من السرير تنتظر الغارة.. عابد يجلس متأهباً للنزال. إنها الليلة اللامعدودة من سنواتهما الزوجية الخمس, يبدءان الليلة بصمت, فيتحول إلى اشتباك حميمي لا ينفض إلا بعد كفاح صريح, تتوقف الساعة عن السير .. تتسارع الأنفاس في الأخذ والعطاء, وينهيان العمل بضحكات شاكرة وعيون ضاحكة.. ويعود الصمت. فيتراجع كل منهما ثملاً إلى شقه السلمي في السرير, ويبقى ما بينهما من رائحة عاطفية يحملها الندى.. يسميها عابد بعرق المحاولة.. محاولة إنجاب طفل لم يرزقا به إلى الآن.. والطبيب طمأنهما بأمل الحمل هذا العام, والحمل يأتي بالمحاولة.. الحل يأتي بالأمل..
هي الليلة اللامعدودة.. ينظر عابد إلى صورة الطفل المعلقة, يستمد من وجهه الطفولي مقوياً أبوياً يقويه في الحرث, ثم يهمس للمستلقية بجانبه بصوت دافىء "ما رأيك ان نغير ميدان المعركة يا مريم" فتبتسم مريم ابتسامتها الزهرية الخجولة, وينزلا فرشة السرير ويلقياها على التراب لاستحضار الفأل الحسن, يريدها عابد أن تحمل منه كما الأشجار في الحديقة, كما البذور في التراب, تستلقي مريم على الفرشة الأرضية هذه المرة, تنظر إلى عابد وتندهه بصمت, تكاد تقول حاول, فميدان الحب هذه اللية مختلف عن كل الميادين السابقة.. عن كل ليلة فاتت لم ينالا من عرقها سوى الإشباع, وماءٍ لا يثمر, وحرب لا نصر فيها, وانتصار لا يأتي كي يتقاسماه.. وهل النصر يقتسم؟ بين عابد ومريم نعم. هما جبهة واحدة ذات لحم موحد, يحدث بينهما انشقاق فيتحاربان بشراسة الأعداء, من أجل ذات الهدف المعلق بقدر قد يأتي فجأة, من أجل ذات الأمل .. أمل الإنجاب الذي يضع حداً لغلب الحياة. وضوء الشمعة يتكلم, يفضح, يدل الرغبة, ولكنه خافت, وعابد ينظر إلى الحورية تنتظره بلا صبر, بلا إيحاء, حورية تلمع في الضوء, بحيرته التي يغرق في أمواجها كل ليلة, استجاب للنداء, اقترب منها أكثر, خلع درعه وخلعت هي آخر حمايتها, وبصمت خجول اتفقا على البدء... تمدد قربها شاهراً كل أسلحته.. تقلبت هي فاتحة كل قلاعها لاستقباله. ضحكت له, وما أن مد يده لاكتنازها حتى اندفعت هاربه إلى البعيد, إلى آخر الفرشة, لاحقها زحفاً فوقفت على قدميها, لاحقها راكضاً في الغرفة ولكنها أسرع منه.. وحين قبض عليها وظن الدلع قد استسلم للجد, فإذا بها تدفعه للوراء بعنف, فسقط مترنحاً على التراب من غير حب هذه المرة, رفع عينه إليها فرآها عارية من كل شيء وصامته كتمثال, تركته أرضاً ودون أن تلتفت إليه مشت من أمامه لامبالية, واستلقت على الفرشة ونامت كالموت.
إنها الليلة الأولى التي تكاد تمر على الزوجين بسلام, لم تطلب منه الهدنة طوال خمس سنين, والآن تقاومه كأنها من جبهة معادية. لم ينطق عابد بحرف, حاول أن يرضى, وقف على قدميه, لبس درع النوم, واستلقى على ظهره بجانب الجسد النائم, ونده: مريم. لا إجابة, عيناها مغمضتان وجسدها متحجر, حاول مراوغتها بخبث, ففتحت عيناها عن دموع هادئة ودفعته للوراء, ضربته على صدره, وأغمضت عينيها,إن عينا مريم حين تضيئان كالريم, وحين تغلقهما كأن الشمع انطفأ. استسلم مجبراً, حاول أن يفهم ما يحدث, فأشعل سيجارة تنير عتمة الدهشة, يبحث في دخانها عن إجابة, ولكن السيجارة نفذت, فأطفأها وألقى بثقل جسده محاولاً النوم, ولكن دون جدوى, فالتفت إليها , ما زالت مغلقة العينين, ولكن حركاتها غريبة, رآها تتلوى على نفسها كالأفعى, وتئن متألمة من لاشيء, أما يدها فكانت تمشي ببطء على كل جسدها تتحسسه من أعلاه إلى وسطه ومن ثم أدنى وأدنى. صرخ: مريم. فعلى صوت تأوهها أكثر, فأدرك أن الذي تفعله لا تفسير له سوى أنها تمارس الحرب مع جسدها دون الزوج. ما دوره هو؟ إن هذا النوع من الحروب لا يصنع نصراً ولا ينجب أملاً, صرخ كالمجنون مرة ثانية ولا إجابة.. مريم .. مريم!!. ولكن الصدى ارتد من الجدران حاملاً تأوهاتها الثملة, أمسك يدها فلم يستطع إيقافها, إنها تعمل كآلة مجنونه لا يقودها أحد, لم تترك في جسدها رقعه دون أن تعبث بها.. غادر عابد الغرفة مسرعاً وعاد يحمل زجاجة ماء باردة.. وبلا مقدمات قذفها بالماء, فانتفضت عن الفراش وهي ترتعش, فتحت عيناها ونظرت إلى عينيه, لمعت دموعها في العتمة, مدت يدها نحوه تريد إمساكه مستغيثة ولكنها انجذبت إلى السرير واصطدمت, وكأن أيادي خفيه تسحبها إلى الفراش, أما هو فأعجز من أن يحاول فعل شيء سوى التحديق بها, عاود نداءه, مريم. لم تجبه سوى بالدموع وبيدها التي تحاول إطالتها كي تصل إليه, مد يده إليها ولكنها دفعته. قبل ثوان كانت تحاول إمساكه والآن دفعته وكادت ان تأذي وجهه, فعاود سكب الماء عليها, ارتعشت من البرد ثم حركت شفتيها وقالت ببطء: "انسى مريم.. مريم الآن لي".
لم يكن ذلك الصوت الخشن صوتها, الكلام يقصف كالرعد ولكن ببطء متقطع "مريم لي أنا, انساها". وحل الرعب. "مريم لمريم؟" استبدل عرق الشهوة والمحاولة على جسده بعرق الخوف, ومريم ليست أٌقل منه تناقضاً, فجسدها يتلوى على صفيح حار, ولكن عيناها تفيضان دمعاً, وعابد يشد شعره ويدور حول نفسه التفاف المحترق, ثم يصفع خديه لقسوة الحيرة "ما الذي تفعلينه بجسدك يا مجنونة" فيأتيه ذلك الصوت الخشن من بين شفتيها "هي لا تفعل.. أنا الذي أفعل بها". وتبدأ تتأوه.
وعابد سلاحه الماء, كلما بدأت رشقها به, فيعود صوت الرعد يضحك, أما الزوج فيسأل ويجيبه الصمت أو ذلك الصوت المستفز "اتركها فأنا أحق بها منك يا عقيم". ويضحك ويكمل "اتركها لي وانا سأملأ البيت بالأطفال" فضرب عابد رأسه بالحائط ضربة عاجز, شعر بماء حار ينساب على جبينه دون ألم "هل أنتِ مريضة يا مريم .. ستنجبين من نفسك؟" فأجابه الصوت الخشن "أنا الذي سانجب منها أيها العقيم". ثم تكمل جنونها, وعابد يلف البيت تائهاً لا تقوى أرجله على حمله, أخذ يغرس أظافره في وجهه فيزداد سخونة وينقلب لونه القمحي إلى الأحمر, دماء على سطح الجلد, ودماء تغلي داخل الجسد ولا حل سوى الماء الذي يبرد زوجته لثوانِ ثم تعاود العبث, " ضاعت مني مريم .. لقد جُنّت.. هل جننتي يا مريم؟", لقد حكم عليها بالجنون وربما على نفسه أيضاً, دق رأسه بكل حائط في البيت, حطم كل أثاث الصالة, وحين يسمع تأوهها الحميم, ينطلق مفزوعاً إلى غرفة النوم, عيناها تدمع وجسدها راضي, إنها مغصوبة, تحاول أن تمد يديها ولكن شيئاً لامرئياً يمنعها, كان الماء هو الحل الغالب.. تهدأ وتأتي ضحكات بشعة وكلام يسرق آخر ما في عقل الزوج: "عابد قلت لك إنها من حقي.. فالعقيم لا يستحق زوجه بكل هذا الجمال".
فصرخ عابد – من أنت؟.
ضحكت وبكت ثم خرج الصوت الخشن من داخلها - أنا شريكك منذ اليوم.
- أنت الشيطان؟
- سمني ما شئت ..
وبلا وعي هاج عابد وانقض على مريم وجلس على صدرها, لف يديه حول رقبتها لينتزع كل روح تسكنها, خنقها حتى ابيضت عيناها, أخذ يصرخ حتى بانت شرايين رقبته العارية,أخذت تسعل, خرج لسانها من فمها, وفجأة عاد لعابد الوعي, وأدرك انه سيقتلها هي, يقتل من يحب, فاستبدل الصراخ بالدموع, بكى فوقها مثل غيمة, ثم قام عنها فعادت تتنفس, وفتحت عينيها وبكت أكثر منه, ولكن لسانها معقود, فهي مُحتلة بشيطان سادي يفعل بها ما يشاء ويمنعها من أي فعل, حتي الكلام لا تقدر عليه. "لماذا اخترت مريم ..
مدت يدها إليه تكاد تقول خذني منه. ولكن لا قوة للزوج الذي يحارب الهواء.
- تقاسمها معي أيها العاجز حتى لا نفقدها نحن الاثنين.
صمت عابد لفترة وكأنه يفكر بالأمر, نظر إلى صورة الطفل المعلقة على جدار الغرفة على يمين الخارطة المنسية, الطفل الذي ينتظرانه, فقال في نفسه "أي شيء إلا الفقد.. أي خسارة إلا أن تبقى مريم على هذه الحالة.. لا أحد منا يملكها" وحل الصمت لبرهة, وبعدها جاء الصوت الخشن: – تقاسمها معي. صمت عابد أكثر وبدأ يحدث نفسه "أنا فعلاً عقيم وأحرم زوجتي ونفسي من الأولاد, ماذا لو تقاسمناها وأصبحنا جسدين على جسد, لن يعلم أحد ابن من الذي سيأتي". ثم أقترب من الحائط وتحسس صورة الطفل, فجالت الأفكار في رأسه "لو تقاسمناها ستبقى مريم أمام كل العالم لي, والأطفال لي, لا تهم الحقيقة المرة ما دامت في السر, فالمهم أن اكون أباً وزوجاً في آن وأمام الجميع أيضا, ربما لا يأتي الطفل شبهي, ولكن الأهم أن يأتي, من منا يشبه أباه في هذا الزمن الضّال؟!". تمشّى في الغرفة قليلاً ثم أتجه صوب مريم وقال: "موافق.. سأتقاسمها"
فأجابه الشيطان – حسناً أنت عاقل ولا تريد الخسارة.. انا سآخذ أشد أجزاء جسدها حساسية ولك الباقي.
لم يفهم عابد ما عناه – ماذا ستأخذ بالضبط؟
ضحك الشيطان ثم بدل صوته إلى الجدية والحكمة وقال– إحم.. لي أشد أعضاء جسدها حساسية حيث الشامة المقدسة هناك.. أنت تعلم أين أقصد.. أشد الأماكن قدسية في الجسد.
ويا للغرابة, ضحك عابد مثله.. ولكنها ضحكة مهزوم, ضحكة مكبل يائس – لك ماذا؟. ثم ضحك أكثر ضحكة فاقدٍ مودِع – وماذا يبقى من مريم؟ عاد صدى ضحكاته إليه ثم ركع على أرضية التراب, وازدادت ضحكاته تسارعاً, وهو يتمتم بلا معني, فوقف على قدميه مترنحاً كالأعمي ومشى نحو صورة الطفل, رفعها عن الجدار وأسرع بها نحو الشمعة وأشعل بها النار.. وهو يضحك بهستيريا ويصرخ في الصورة بأعلى صوته: لا أريده .. إذا لم ياتِ من ظهري فلا أريده. فتطاير رماد الصورة في العتمة حتى تآكلت عن آخرها وهو يصرخ كالمدفع: – تريد أخذالجسد وتعطيني العار. وضحك أكثر, وبكى أقل, أما مريم فتنال عقابها لرفض الزوح, فالشيطان يجبرها على العبث بجسدها .. تشعر بأن يدها سكين تقطّعها عنوة, ولا شيء بمقدورها أن تفعله, فلسانها عقد عن القول, تأتيها دموع عابد فتبكي مثله, وحين يضحك ينقطع نفسها حزناً عليه, هي حتى ترقبه خجله من جسدها العاري أمامه, ولكنها غير قادرة على مداراة لحمها, ظنت نفسها جثة هامدة, أو صخرة أحتلها الشيطان ويمارس فيها فنون الاغتصاب.. هي أرض تأبى من عليها ولكن الأرض تكتفي بالانتظار, حسبها تبقى كما هي, لا تقوى على استباحة الشيطان لجسدها.. حتى لو غير الشيطان اسمها الآن فلا تقدر على منعه, كل أملها معقود على هذا العقيم المسكين الذي يبقى يقول (إلا مريم), ولكن هل يكفي القول فقط والماء البارد.. يا للآمال التي حاربوا من أجلها وكل حرب تتبع بهزيمة.. خمس سنوات من الحرب من أجل أمل الطفل وكانت النتيجة ضياع الرحم والجسد. علت ضحكات عابد التي تكاد تدمرها أكثر من بكائه, وهي تتساءل بصمت: لم غادر الغرفة وتركني وحيدة مع مُغتصبي, هل هرب, هل وافق على القسمة, هل تنازل بتلك السهولة واكتفى بالبكاء والصراخ. كان صوت عابد يأتي من خارج الغرفة مشوباً بالحدة: – ماذا يبقى منها .. هو يتكلم عن اقتسام جسد وانا اتكلم عن لحم زوجتي, شرفي. اقتربت خطواته المسرعة المتقدمة, فظهر ومعه زجاجة أخرى غير الماء البارد, تقدم إليها أكثر ورشقها بالسائل, اشتمت رائحة السائل المصبوب على جسدها, لم يكن ماءً ولا دموعاً, كان يشبه رائحة الجاز, هجم على الشمعة مسكها بكلتا يديه وهو ينظر إليها كالمجنون كأنه يحتضن قنبلة, وقف فوق جسدها العاري والمبلل بالجاز لا يدري ما الخطوة القادمة, فأتاه صوت الشيطان مرعوباً يتخلله رجاء التوقف – "لا تفعل.. سأكتفي بأي مكان آخر غير الشامة التي اتفقنا عليها"
فضحك عابد وعيونهه تبكي: – إما كل مريم أو لا مريم.. لا غالب إلا النار.. لا غالب إلا النار.
استنشقت مريم رائحة الجاز أكثر, أرادت أن تتكلم لم تستطع, ففتحت ذراعيها تريد ان تحتضن شيئاً قد يأتيها, ولكن يد عابد المرتجفه أخافتها, أدركت عجزه عن الإقدام, فأخذت نفساً أكثر عمقاً كان مليئاً برائحة الشمع والجاز, فتحت ذراعيها أكثر, انسلت من شيء يحكم أسرها, وفجأة انتفضت عن الفراش كموجة البحر وأنقضت على عابد.. حضنته وحضنت الشمعه.. التصق الجسدين كالحطب المتوهج, شدها إليه أكثر وهي تقبله.. أراد ان يسألها "لماذا إنتحرتِ؟" لم يستطع, كان جسده يتآكل محترقاً. أرادت أن تسأله "لماذا ترددت في حرقي مع مُغتصبي؟" لم تقدر, فلحمها يتحرر بالنار قطعة وراء قطعه. أمتلأ البيت بضوء النار والدخان ورائحة اللحم المحترق, وقبل آخر نقطة إحتراق في الجسدين, قذف عابد ما بقي في ظهره من ماء ذكوري على التراب.. كان هذا آخر فعل مقاوم له.. آخر أمل, فهل سينجب من التراب هذا العام كما طمأنهماالطبيب؟
توققت الساعة عند رقم الكارثة 19:48
ولكن بلا زوجين ولا أنفاس.
فقط بيتٌ فقير كأشجار الخريف, أرضه تراب وجدرانه محترقة بالنار.. لا يزينه سوى صورتين؛ خارطة لوطن مُقسّم, وآية الكرسي, وأمل إنجاب طفل قذف أبوه نطفته في التراب.. والجيران يقفون على الحياد ويتساءلون بصمت: ماذا سيحدث الآن؟

السبت، 17 أبريل 2010

نهاية الثورة .. بدايتها




تنسحب الشمس في غفلة من القرية.. تاركة وراءها وصية ظل أسفل زيتونة.. والزيتونة على قمة جبل.. والجبل يلبس ظلاً أطول فيمد سُلطته فوق سقوف البيوت النائمة.

في أعلى الجبل وأسفل ذات الزيتونة يقف عشرة رجال عظماء, كلٌ ينظر إلى القرية فيحدد ملكه من الأرض, الكل نيام إلا هم, عشرة رجال يلتفون في دائرة مثل سبحة مكيّة, تقدّم أحدهم إلى الوسط, وأنزل حزمة ملفوفة بالقماش عن كتفه وفك عقدتها فبان ما بها من أسرار: علم, مسدس, رشاش, ثلاث قنابل يدوية, وقاذف صاروخي.. وأملاً لا يُرى.
يحدق الرفاق إلى عِـدّة الشغل بشغف, فهبّت نسمة رقيقة من الهواء تداعب الكوفيات المعقودة على أعناقهم, أحكموا رباطها بيد واحدة, واليدّ الثانية تنجذب عطشى إلى البنادق, الكل صامت وينتظر نصيبه من القسّمة (عابد, الشاب الذي لم يتجاوز الخامسه والعشرين تكاد عيناه تدمع على العلم والقنبلة) ولكنه بقي صامتاً مثل الآخرين, ينتظر تعليمات القيادة.

تقدم أحدهم إلى وسط الدائرة, فتح خارطة صفراء لموقع العدو وبدأ يشرح خطة الثورة قائلاً: "نحن عشرة رجال, سبعة منّا فقط سيقتحمون, الأول سيقصف المستوطنة بالقاذف الصاروخي, وعندها سيحدث إرباكاً في صفوف العدو, فيهجم الثاني بالرشاش ويبدأ حصاده.. ثم ينسحب. وبعد ذلك سيهجم الثلاثة الباقون بالقنابل اليدوية, أما حامل المسدس فسيبقى أسفل تلك الصخرة كي يغطي على الانسحاب.. وبعدها نلتقي هنا حيث ستبقى القيادة الثلاثية بانتظارنا.. وإذا لم يقدّر الله لنا الإنسحاب بسلام فلـ ...."
وقبل أن يكمل نهض عابد من مكانه وضرب قبضته في الهواء "إذا لم ننسحب بسلام فموعدنا في التراب الذي نُحب". حياه الرجال ورددوا معه بحماس, فعاد ليأخذ مكانه في الدائرة. وقبل أن يجلس هبت نسمة أكثر قوة فكت عقدة كوفيته, فأعاد إحكامها دون أن ينظر إليها, كانت عينه تتجه إلى المستوطنة وتدمع غضباً, وحين يعيد النظر إلى الأسلحة المرصوفة أمامه تذبل اشتياقأ, ولكن نظرة تساؤل حادة راودته في السر: "والثلاثة الباقون؟"
فجاء صوت أحد الجالسين قربه بلكنة سريعة "نحن ننفذ ويوجد غيرنا العشرات.. ولكن الأهم هي القيادة التي تفكر وتحيي من مقبرة كل ثورة.. ثورة جديدة"
كان المتكلم شاب في مثل سنه, ولا يقل حماسة عنه, أتت الإجابة سارة لعابد, ولكن لمحة حزن اختلطت بملامحه الحادة حين أدرك أن العلم سيبقى مختبئاً هنا أسفل الزيتونة.
كانت القيادة ثلاثة من كبار السن يكسو شعرهم الخفيف بياضاً حكيماً في دليل على التراكم الثوري الممزوج بالخبرة, وللمصادفة كانت أسماء ثلاثتهم تبدأ بحرف "الميم".. واقتناع عابد بأهميتهم جآء لكثرة ما سمع عنهم على ألسنة أهل القرية.. فزاد شعوره بالفخر الآمن وعاد ينظر إلى المستوطنة ويعد الوقت..
وقف الشبان وقفة عسكرية, تحولت الدائرة إلى جدار ضخم ومتراص, وزعت الأسلحة على السبعة المهاجمين, وكان نصيب عابد ما تمنى؛ قنبلة يدوية, فهو ماهرٌ في التصويب, وإلقاؤه للحجارة في الصغر أكسبه خبرة إصابة الهدف بدقة. في البدء قبض يده على القنبلة بحذر, وحين أيقن أهميتها ضغط عليها بحميميه تكاد تفجرها بين يديه, ذات الموقف مرّ به قبل ساعة من الآن, حين صرخت أُمه متألمه لكثرة ما حضنها, هو لم يخبرها بما ينوي الإقدام عليه مع رفاقه هذه الليلة, ولكن عشرين قبلة منه على كل وجهها جعلها تشعر بالخطر, فحاولت منعه حين وصل باب البيت متجهاً إلى الجبل, قالت له بصوت يحمل التأنيب والإغراء في آن "وخطيبتك مريم لمن ستتركها من بعدك؟"
فأجابها من بعيد, سأعود حالاً وإذا حصل معي حادث ما, فقدر كل مريم أن تحيا عذراء.. وغادر البيت بثياب العمل دون أن يودع أحداً, فقرار مثل الذي اتخذه يسميه عملاً أيضاً, بل أكثر شرفاً من العمل مقابل دائرة الخبز.. عملٌ لأجل الزيتون الذي تقلعه الجرافات كل يوم أمام عينيه.. أو هو عمل ثأر أقسم على تنفيذه في يوم ما حين رأى صدر طفلة مشقوق بقذيفة مدفع آكل للحم, وهو الآن كبر وبين يديه قنبلة, سيلقيها على أكبر الضباط رتبة, وربما يشترك معه القدر في التصويب ليكون انفجارها في وجه قاتل أطفال, أو قالع زيتون.. لا يهم, أي وجه أصفر غريب لا يشبه وجه هاذي الأرض.
تحسس القنبلة جيداً كانت ناعمة مثل خد مريم, مرر أصابعه عليها برفق, ودّ تقبيلها الآن, فأتاه أمر التقدم, وقت العملية, بينه وبين المستوطنة مئتي متر والوقت معه لكي يسرق منها قبلة في الطريق الوعر, إنها خد مريم, حرارتها حين كانت توشوشه قائلة "بعد الزواج سأصبح كلي ملكك" ولكن آه.. حشرج صوته, حتى القبلة لم يأخذها من مريم, ربما إذا انسحب بسلام, ولكن ربما لا يعود, من يدري, لا يهم, حسم أمره, فمريم يعرفها منذ كانا طفلين يلعبان, أما القنبلة فلم يعرفها إلا الآن, لم يشبع منها بعد, حتى يقبلها ومن ثم يلقيها لتلد ذلك البركان الذي سيحرق كل من أنتصر على اجداده البسطاء, كل من دمرّ وهجرّ في الليل, في وجه الذين يسرقون بسمات الله من وجوه الأطفال, المستقبل أهم من الحاضر.
عقد الكوفية بإحكام, تقدم رفاقه السته بخطى سريعه, نظر وراءه, لا أحد يسبقه, وفجأة استوقفهم صوت مبحوح فيه عجز السن "نسيتم التعلميات يا شباب". استجاب للصوت, وعاد بخطوات بطيئة متراجعة.. كانت أضواء المستوطنة تجذبه أكثر من أي صوت, ولكنه نداء القيادة, قسم الولاء للقادة, عاد معه رفاقه السته إلى أسفل الزيتونة, مجبرين مثله, أمرتهم القيادة الثلاثية بالجلوس في دائرة مصغرة للاستماع للتعليمات الجديدة... تقدم القائد الأكبر إلى وسط الدائرة, سعل ثم بدأ كلامه بهدوئه الرزين وقال خاطباً فيهم: "أيها الشبان, قاتلوا بشجاعة الأسود, ولكن بحكمة, وحذارِ أن تصيبوا محوّل كهرباء العدو حتى لا يردوا بقطع الكهرباء عنا.. فثورتنا تنير ولا تـُظلِم".
ردّ الشباب مع عابد بصوت واحد موافقين "هدفنا ليس الكهرباء".

تقدم القائد الثاني واضعاً يديه في جيبه "يا شباب قاتلوا كالأبطال, ولكن رجاءً لا تطلقوا النار على إذاعة العدو حتى لا يردوا بقصف إذاعتنا, وكما تعلمون يا اخوان فأنا أعمل في إذاعتنا الثورية, وإذا هدمها العدو إنتقاماً سنغدوا بلا تمويل ولا صوت.. رجاءً لا تقصفوا إذاعتهم, فثورتنا تبني ولا تهدم".
ردّ الجميع موافقين, لن نؤذي إذاعتهم.
وببطء تقدم القائد الثالث إلى وسط الدائرة, ولكن كبر سنه جعل أقدامه النحيلة تتردد, فعاد مكانه وجلس على الأرض وبدأ في إلقاء آخر التعلميات: "يا رجال أنا أقف احتراماً لنزعة الثوار في صدوركم, ولكن من أجل استمرار الثورة يجب أللا تقتلوا أحداً من العدو حتى لا يردوا بقتل أحدنا ويخمدوا الثورة, فالثورة تـُربي ولا تقتل...."
حل صمت عاجز في المكان, تبادل الرفاق نظرات مكسورة, أنهت القيادة أوامرها ثم قالت بصوت واحد "انطلقوا الآن.. عاشت الثورة".
نطق أحد الشبان من بين أسنانه "أين ننطلق؟! ماذا بقي للثوار كي ينطلقوا من أجله يا أُخوة الشرمـ..و..و.!!".لم يكمل, ولم يسمعه أحد, أحنى الثوار رؤوسهم ينظرون إلى الجبل وكأنه شمساً أرضية تنسحب من تحت أقدامهم, هبت نسمة قوية من الهواء الجبلي حلت الكوفيات المربوطة على أعناق الجميع, وتطايرت إلى بعيد, كانت تختلط بالتراب وتتراقص مثل أكياس النايلون الفارغة, لم يلتفت أحد لسقوطها, حتى بردت أعناقهم وتعرّت,
نظر عابد إلى المستوطنة فرآها تشع نوراً, أراد أن يكمل طريقه إليها وحيداً ولكن ظِل القيادة الواقفة تمادى على بصره, حجب آخر ومضة آتيه من هناك, فزاغ بنظره إلى قريته النائمة يتحسس بيتاً مضيئاً, إنها مشبعة بالظلام, صامته كالقبر, فالشمس أكملت تسللها خلسة وراء جبل آخر وسلمت كل وصيتها إلى كل الأرض. الظل الأعمى انتشر كالعتمة, فتحسس القنبلة في يده.. كانت ما تزال ملساء وحارة, أخذت أصابعه تنحدر من بين شقوقها برفق, اصطدم اصبعه بمسمار الأمان أعلاها.. تداخل محبس المسمار حتى التصق في ذات الإصبع مع محبس خِطبة مريم, فيما عيناه تزداد اتساعاً وهو ينظر إلى... اللامكان.
تُرى ماذا نوى أن يصنع بالقنبلة؟

حُب مُهمل على الرصيف


هي, أحبته عشرين عاماً دون أن تكلمه, وعندما كلمته في الفرصة الأولى قالت له: لقد تزوجت!
هو, أحبها عشرين عاماً دون أن يكلمها وحين زُفت إلى غيره بكى مثل طفل!

كان ذلك أول حديث دار بينهما, ومنه كُتب عقد الفراق, أخذ يراجع ذكرياته مثل أمير أندلسي مهزوم, منذ ولدا معاً في بيت عائلي مشترك؛ فيه الجد والجدة والأعمام, لم يستطع تذكر اليوم الذي دخلت فيه قلبه, ربما حين كانت الجدة تحرجهما وتقول "ابن العم ينزل بنت عمه عن الفرس.. هي لك وأنت لها". حينها كان يشعر بالخجل, ويضع يديه في جيبه متظاهراً انه لم يسمع, أما هي فقد كانت تنسحب مسرعة من الجلسة, دون أن يقدر أحد تخمين سبب مغادرتها, فبشرتها القمحية ذات الملمس الزجاجي لم تكن تكشف عما تحس, وكان سهلاً عليها أن تغلق عيناها الصغيرتين لتمنعهما من البوح, هكذا كانت سنواتهما الخمس عشرة الأولى؛ طرف خجول والآخر غامض, وكل الذي يجمعهما لاشيء سوى نبوءات الجدة.. وكلمات قليلة سمعها الصغار دون أن يفهمومها, وتقدمت بهما الأيام مثل قطار يمشي ببطء على رمال جافة, سقطت منه الجدة, توفيت فجأة تاركة وراءها صدى جملتها لحفيديها, فشعر هو أن عقد القران قد انفصل بغياب التي كانت توفق بينهما, أما هي, فلم يستطع إلى الآن أن يتذكر حقيقة شعورها تجاهه برغم أن بشرتها تحولت ببطء إلى البياض, وبرغم أن عيناها أخذتا إستدارة واسعة وذكية, فقرر الاعتماد على نفسه لرؤية ما كانت الجدة توصي به, غادر صفه المدرسي مسرعاً, ألقى كتبه على باب البيت, وعاد من ذات الطريق ليختار مكاناً يطل على طريق عودتها, والمكان الأنسب كان بيت الجدة, ربما ليذكرها بشيء يربطهما معاً وخاف أن تنساه, وربما لأنه كان قريباً من خطاها المدرسية, أخذ مرصده على الرصيف وانتظر قدومها إلى أن رآها آتيه من بعيد, طفلة لم تتجاوز السادسة عشر تتمشى ببطء مثل الـريم, أخذت خطواتها تقربها منه, أما هو فتظاهر بأنه مشغول بالحديث مع صديقه, أقتربت منه أكثر, بان شعرها الأسود.. لباسها المدرسي الأزرق يلمع في الشمس, وما ان بدت واضحة أمامه حتى ارتبك للحظة وجلس على مقعده الرصيفي.. ثم تمالك نفسه وأكمل تلصصه إلى عينيها مباشرة باحثاً عن سره, كان عملاً شاقاً بالنسبة إليه أن ينظر إلى ابنة عمه بكل هذا الشوق, ويبدو مثل رجل غريب يريد معاكستها, فخطرت له خطة النظرة العابرة.. أعين تتمنى ان تعرف شيئاً.. تحولت بلا مقدمات إلى أعين متشابكة, كل منهما كان يبحث عن سره في عين الآخر, بدا وكأنهما أتفقا مسبقاً على هذا الموعد, فصمدت عينه فيها أكثر مما كان يظن, وهي بادلته سهامها إلى أن أستدارت وأختفت في نهاية الطريق...
اطمأن إلى إرث الجدة, لقد وهبته عيناها ما لا يقدر على المطالبة به وحيداً, أخذ ضمانته بنظرة قبول صافية وشعر بأن ميثاقاً جديداً قد كُتب مكان القديم, وقال في سره "هي لي مثلما أرى تلك الشمس", كانت نظرة واحده منها كفيله بجعله رجلاً. هل كان كذلك فعلاً؟ لا يهم, المهم أنه شعر بمسؤوليته لأول مرة.
مضت سنة كاملة, اخترع خلالها نوعاً جديداً من الحب, العين للعين, رباط مقدس حاكته النظرات البريئة, وفي فورة جرأتهما تطور معهما الحال إلى التجرؤ على النظر لمدة الثلاث دقائق متواصلة, من بداية ظهورها في الطريق, حتى مرورها من أمامه على الرصيف.. حتى إختفائها في زحمة ضوء النهار.
وأيضاً حين زارهما الشتاء, لم يوقفه المطر الغزير عن ممارسة روتينه اليومي, حيث كان يجلس في المطر مثل شحاذ بائس.. وما أن يرى عيناها حتى يسري الدفء في دمه وتنزاح الغيوم من فضائه. سنة ثانية انقضت, أدمن مواصلة الانتظار في الطريق, اتسعت عيناه وأصبحتا اكثر حدة مثل صبيان الشوارع, أما عيناها فقد ازددن ألفة وحناناً, لم ينظر طيلة حياته إلى شخص مثلما نظر إليها؛ بإستثناء صورة لزعيم عربي كانت معلقة أمام فراشه في غرفة نومه. ولكن طيلة السنة الثانية لم يستغل أية فرصة للكلام معها.. لأنه تمنى أن تبقى العلاقة بينهما طفولية كما بدأت, فاتخذ قراره بان العين أصدق وأقرب إلى القلب من الرموش التي تُسيّجها, كان ينظر إليها ويبتسم, فترد عليه بابتسامة, ومرات كثيرة كان ينهار ويضحك فرحاً, فتضحك معه بصمت, وحين كان يعبس كانت تنظر إليه مستغربة وهي تتمنى ان تعرف السبب... كان ذلك التفاهم يكفيه, لا يريد لأي حروف أن تُثقل هذا الصفاء الملائكي في عين طفلته الصغيرة.
وفي يوم صيفي آخر.. كانت آتية من بعيد, نظرت إليه طويلاً وهي تقترب, ولكنه وللمرة الأولى بدا منزعجاً, لم يعرها أي اهتمام, بل أبقى عينيه تنظران إلى الأرض..إلى الأرض فقط على غير عادته, نظرت إليه كثيراً وأبطأت في خطواتها أكثر, ولكنه بقي على حالته الشاردة, بدا كأنه يتعمد تجاهلها, رفع رأسه فرآها تبتعد وهي تنظر إليه من وراء كتفيها, كانت تكلم زميلتها.. لم يسمع ما تقولان, لكن ملامح الصديقتين تُظهر ان كل واحدة منهن تسأل الأخرى عن سبب تجاهله الذي يظهر عليه للمرة الاولى خلال عامين, كانت صديقتها تلك مرافقتها الوحيدة في طريق عودتها إلى البيت, يبدو أنها تعلم ما بينهما من علاقة صامتة, فسابقاً كانت تنظر بعيداً لتفسح لهما المجال للغزل, ولكن هذه المرة الاولى التي تنظران إليه معاً وباستغراب "ما غيّرهُ اليوم؟", كان ذلك السؤال الوحيد المرسوم في أعين الإثنتين وهما تنظران للوراء.. إليه, هو تصرف بقساوة, أو أنه تعمد ذلك, كانت الإنتفاضة قد اشتعلت في بدايتها والكل ثائر, جيله والجيل الأصغر منه, كل الشبان يغضبون وينتشرون لإلقاء الحجارة مثل أشباح يكسوها الغبار, وهو تمنى أن يأخذ دوره في صفوف المنتفضين.. المصابين والمعتقلين والمستشهدين, أراد أن يضيف إلى حبه حُباً جديداً أكثر جدية ومناسب للشبان في مثل أعوامه الثمانية عشرة, حاول ذلك, فتح كتبه المدرسية التي يملؤها حرف اسمها الأول باللون الأحمر, وأضاف الكثير من أبيات الشعر الوطنية والخرائط المنسية, كان أشعل ثورة داخل كتبه بالإضافة إلى إلقاءه الحجارة على جيش الإحتلال ليلاً, أخذته الإنتفاضة منها لفترة قصيرة دون ان تعلم سبب غيابه, لم يعد ينتظرها, يبدو أنه استبدل حبها دون ان يضيف إليه, ولكن أمنيته بفعل شيء مؤثر للإنتفاضة لم يتحقق, اكتفى بالحجارة والشعارات المرسومة على الكتب بجانب شعارات الحب.. انقضت السنة الثانية وقد انهى دراسته الثانوية وعقد العزم على السفر لإكمال تعليمه خارج فلسطين, لم يودعها ولم يشعر بان الأمر يستحق, فهو سيعود في الحال, والإنتفاضة التي تمنى المشاركة فيها بجد زادت إشتعالاً في بعده, وفي غربته تحول من ملقٍ للحجارة وللنظرات إلى مستمع ومتابع للأخبار عن بعد, أما هي فقد كان ينساها لفترات قصيرة, ربما يكون نسيها لأيام ولكنه لم يتعرف على غيرها.. اليس هذا وفاءاً منه؟ حضورها في أحلامه كان يؤكد طمأنته, وخاصة حين تعود إليه نظراتها وهي تسير من أمامه, فيشعر أن ما بينهما ما زال قائماً, وأن ما كتبه في عينيها لن تمحوه مجرد سبع سنين من البعد, بعكس الأذن التي تعتاد على كل صوت جديد, وبعكس اليد والجسد.. رباط العين أقوى من كل ميثاق, وأحياناً كان يقول "إننا نحب أمهاتنا لأنهن أول من نرى في الحياة .. وقبل الضوء". هكذا بقي يواسي نفسه طيلة الغربة.. إلى ان بعثت إليه برساله إليكترونية تقول "لقد خطبت وقريباً سأتزوج.. عقبالك!".
كان هذا أول كلام يأتيه منها طوال فترة حبه النظري لها وما قبل, شعر بأنها أخبرته لتعاقبه؛ فكيف يكون أول كلامها معه وداعاً.
لقد رأيته وهو يقرا الرسالة, بدا لي مثل طفل عاري يبحث عن أُمه, ودّ لو أنه يبكي لكنه حجز دمعته حتى لا يغسل آخر صورة لها من عينه القديمة, حاولتُ مخاطبته لكنه رفض, وبقي يتأمل شاشة حاسوبه, إنه لم يأخذ منها سوى تلك الكلمات الأربعة, قرأهن مئات المرات, وغاص في نفسه يتذكر ما حصل في غيابه, يحاول إيجاد سبب, لقد مرت عليه سبع سنين غريباً حاملاً معه وعداً من طفلة صغيرة, جاءت بالنهاية وهدمته بضربة قاسية, كأنها غريبة عنه, وضع يده على رأسه وأسند ظهره على الكرسي كأنه يجلس على الرصيف كما كان قبل السفر, تجنبت الحديث معه؛ لأنه بدا في نظري يستحق ما هو أكثرمن الكلام, ربما يحتاجها كي تحضنه, هي التي هدمته وهي القادرة على إعادة ترميمه, ولكن كيف وقد حرما نفسيهما حتى من الكلام, وهل يلومها أم يلوم نفسه, أخذ يلوم نفسه القريبه, إنه بلا شيء, بلا أحلام, بلا ماض في بلده, كانت الأخبار تأتيه باردة عبر التلفاز, فصوت الإنتفاضة كان يخبو, كادت تنتهي وهو يتابع أخبارها عبر التلفاز مثلما اختفت منه التي أحبها, كل واحدة منهن الآن تركب فرساً غريباً وتسافران إلى غيره كما سافر هو وتركهما قبل سبع سنين. حتى الزعيم الذي كان يعلق صورته في غرفة نومه تذكر للتو أنه أُعدم قبل سنين. الآن تذكر كل شيء أمل بتحقيقه ولم يقدر.. وشعر بأنه قد يكون أي شيء إلا (عنترة) الذي أخذ حبيبته بسيفه وحمى مضارب القبيلة بذراعه قبل أشعاره, وهنا خطر على باله سؤال "ماذا لو أن عنترة كان يحب فلسطين وليس عبلة؟..ربما كان حررها"..
أنه الآن يجلس على الرصيف الغريب مثل فصيل فلسطيني مُبعد في دمشق أو بيروت وينتظر الأوامر من غيره كي يتقدم!!.. أنه يراقب كل ماضيه يسافر منه مثل لاجىء اكتفى بالنظر ومراقبة أرضه تسرق.. ومن الغد سيتابع أخبار كل شيء في بلده مثله مثل باقي الغرباء المحايدين؛ ويبدل هوايته من النظر إلى السمع الإذاعي أو القراءة في الجريدة. (تحول إلى رجل الحواس الست), خاف ان يعود إلى صورته الأولى التي كان يظنها صادقة, الآن عرف أنه لم يكن يحب, بل كان لصاً في الصيف ومتسولاً في برد الشتاء. رأيت أول دمعه تنزل من عينه المقابله لي وهو يتجه نحو غرفة نومه في الغربة, استلقي على السرير وقرأ لي ببطء من ديوانه الشعري المفضل:
اذكرينى !
فقد لوثتنى العناوين فى الصحف الخائنة!
لونتنى .. لأنى منذ الهزيمة لا لون لى
( غير لون الضياع )
( قبلها ، كنت أقرأ فى صفحة الرمل
والرمل أصبح كالعملة الصعبة، الرمل أصبح أبسطة .. تحت أقدام جيش الدفاع )
فاذكرينى ، كما تذكرين المهرب .. و المطرب العاطفى .. وكاب العقيد .. وزينة رأس السنة
أذكرينى إذا نسينى شهود العيان و مضبطة البرلمان و قائمة التهم المعلنة
و الوداع!
الوداع! (*)
ثم خفت صوته ونام.. وأكمل بكاءه في الحلم.. وهو يقول:(وصية جدتي, إنتفاضة, حبيبتي)
أما انا فقد غادرت البيت قبل ان يكمل آخر أحلامه الكثيرة التي لايأخذها غلابا... فليس مطلوباً من الفلسطيني أن يصنع ويحرز شهادات, فغيره سيفعل ذلك, ولا أن يبحث عن لقمة العيش في غربة اللئام .. فغيره أحق بملء البطون, بل المطلوب منه ان يكون عنترة.. أو يكتفي بالحزن والندم مثل صديقي الذي أضاع كل شيء.. حتى بنت عمه التي تقول قوانين القبيلة انه الأحق بلحمها ودمها من الآخرين.. قولوا له هذا الكلام.


* المقطع للشاعر العربي أمل دنقل