الأربعاء، 23 فبراير 2011

جثة الصفر




لن أقول أنه فقير حتى لا ينفر القارىء.
ولن أرسم الأزقّة التي ضاع فيها قبل أن يصل الرصيف.
ولن أشي باسم أخته حتى لا أُثير فضول أحد..
ولأني لا أعلم اسمه ولا من أين أتى, سأروي قصته "هو" دون أي تعريف خاص؛ باستثناء تلك المتعلقات الجسدية المتداولة بين البشر: رأس متوسط الحجم, ليس كبيراً جداً حتى لا يحسد عليه, ولا صغيراً حتى لا يشفق عليه أكثر الناس زهداً.
ولأنه يقف على الرصيف ويستعد لقطع الشارع, فحتماً كان يملك أرجلاً يحملنه, رجلين اثنتين فقط, نحيفتان وبالكاد تكفيانه, ولأنه لا يطير فهو يحتاجهن جدا لينقلانه إلى الرصيف المقابل.
وأيضاً –وهذا ليس بذخاً- يملك ذراعين, ويبدوان من بعيد مثل أعواد الرمان الجافة, وفي نهاية كل ذراع يوجد يد, واحدة فارغة ولا يستعملهما إلا في الأمور الضرورية, كأن ينكش شعره الأسود الطويل, والثانية يحمل بها نظارة زرقاء ماركة مغني مشهور, لم يرتديها أبداً, كان يحملها مجاملة لروح العصر.
ولأنه يقف على الرصيف ويراه المارّة, فلا بد وأنه كان يرتدي ثياباً –وهذا ليس ترفاً-, فالبنطال مشقوق من عند الركبة, ولأول نظرة لن تستطيع تمييز لونه –ما بين الأبيض والأسود- لكثرة ما استوطنه وغسله يدوياً "البنطلون المناضل" هكذا يسمونه.
أما القميص الرياضي.. فكان لونه أزرقا قبل عام, ومكتوب على ظهره رقم (10) باللون الأبيض الساطع, أما وقد بهت لون القميص إلى الأخضر لشدة ما ضربته الشمس, أصبح يشجع الفريق الأخضر تماشياً مع تدرج اللون, وبعيداً عن نزعته الرياضية الغير موجودة أصلاً, فموقفه من الثياب لا يتعدى كونها وسيلة للحشمة والتدفئة في آن.
إذنْ, نحن نراقب إنساناً كامل التكوين يقف على الرصيف ويهم بقطع الطريق, ينظر إلى يساره وينتظر منفذاً آمناً للمرور, والسيارات تنهمر باتجاه واحد مثل مياه النهر, انتظر لبرهة حتى تخفت سرعة السيارات وتفسح له المجال, ولكن الزحام صدّه فعاد يائساً ووقف على الرصيف..
"-هي زحمة الصباح يا أخي.. أنا انتظر من نصف ساعة".
التفت لمصدر الصوت, امرأة تحمل حقيبة مدرسية بيد, وباليد الثانية تمسك ابنها الصغير بحرص. ابتسم وقال:
"- يبدو أن لا أحد يستطيع الوصول إلى الجهة الثانية إلا من ولدته أمه هناك..
ثم أخذ نفساً عميقاً وقرر أن يعتمد على حواسه وعلى ضمير السائقين..
ركز ناظريه إلى جهة اليسار, من حيث تأتي السيارات, ثم وضع قدمة اليسرى على الأسفلت ومشى خطوة, تبعها قافزاً بالثانية, والثالثة هرول, والرابعة بحذر بطيء حتى وصل لمنتصف الطريق, لفحته رياح سيارة طارت من أمامه كالعاصفة, فتصلّب في مكانه ليفسح لها المجال, نظر إلى يساره, كانت سيارة جيب أسود تأتي نحوه بالسرعة القصوى, نظر للوراء, أراد التراجع ولكن السيارات حجزت عليه, شعر بأنه تورط في المنتصف.. سُدّ من أمامه وحوصر من ورائه, فيما صوت محرك الجيب يعلو ويقترب, أدار وجهه للجهات الأربع يبحث عن حيز آمن, بدا مطوقاً إلا من يمينه.. واليمين أن يركض أمام الجيب, أطلق قدميه للريح, ركض خطوة وخطوتين.. أسرع في الجري أكثر, وتوقف. أيقن أنه خسر السباق, فاستدار للجيب وجهاً لوجه ورفع كفيه للأعلى مستسلماً وصاح:"ليس الآآآآآآن..

شوّش صوت الكوابح على صراخه, تلاه صوت اصطدام وحشرجة شيء خشن يتمزق تحت العجلات, ثم هدأت الضجّة. التفت المارّة لمصدر الاصطدام, واقتربوا يتساءلون وعلى وجوههم أمارات الدهشة, وحين وصلوا لمكان الحادث فزعوا لما رأوا, وانقلبت ملامحهم إلى الرعب..
الضحية مسجى على بطنه والعجل الأمامي للجيب يرتكز تماماً على عاموده الفقاري, النصف السفلي من جسده مختفي تحت الجيب, شعره الأسود الطويل يغطي كامل رأسه, ووجهه ملتصق بالطريق.. كفيه مفتوحتان, والنظارة الزرقاء ترتفع للأعلى وتتلوى في أشعة الشمس ثم تسقط على بعد أمتار قليلة.
استغلّت المرأة توقف السير, وضعت الحقيبة على ظهر ابنها, ثم حملته إلى صدرها وأغمضت عينيه بكفها وركضت مسرعة وهي تنظر في الاتجاهين.. حتى وصلت للجهة المقابلة.
والناس يتبادلون نظرات العجز ولا يعلمون ما الخطوة القادمة, ثوان قليلة مرّت, حتى علا صوت بكاء, نحيب فتاة في العشرين تحمل نظارة المدهوس وتقترب منه وهي تصرخ بصوت عال:
"- اشتريت التذكرة.. وغداً موعد الحفلة"
فتح الناس لها الطريق وهم يتألمون للفجيعة التي ألمت بهذه القريبة, تقترب الفتاة وهي تضرب خديها ونحيبها يعلو "تباً للفن من بعدك.. يا ويلي لمن سنطرب بعد اليوم". ظلت تبكي وترثي الضحية حتى وصلت للجثة.. مدت يدها على شعره ورفعت رأسه للأعلى فبان وجهه, ارتعشت الفتاة, وتوقفت عن البكاء, وضعت النظارة بجانب رأسه بهدوء, وانتصبت واقفة, مشت خطوتينً ثم عادت مسرعة إلى باب الجيب وكأنها تذكرت شيئاً, نظرت لوجهها في المرآة الجانبية للجيب.. كفكفت دموعها وصنعت ابتسامة خجولة:
"- عفواً ظننت أنه شخص آخر.. أقصد الحمد للّـ"
وابتعدت وعيون الناس تتبعها وأفواههم مغلقة.

لم تكد الفتاة تغيب عن الأنظار حتى صاح رجل آت من بعيد: "يا الهي.. يا الهي" ويقترب الرجل الذي بفمه سيجارة وهو يتعوذ بالله ويضرب كف بكف:"- هل قلوبكم حجارة.. كيف تتفرجون على فتاة تموت دون أن تمدوا لها يد العون"
شقّ الرجل دائرة المتفرجين ودنا من الجيب الأسود, ثم جثا على ركبتيه, مد يده إلى شعر المدهوس وأخذ يسرحه بحنان وهو يكاد يبكي: "- يبدو أن هذي الجميلة لم تتجاوز العشرين بعد.. أين قلوبكم؟"
ثم يصرخ: "أين هي قلوبكم؟"
وبرفق شد الشعر الطويل للأعلى ليرى وجهها, خاب أمله, صمت لبرهة:"أها.. أها". غمس الرجل السيجارة في بقعة دم وهو يحدِّق بوجه المدهوس, وببطء أعاد الوجه لمكانه على الطريق, ووقف على قدميه وأشعل سيجارة أخرى وغادر من حيث أتى.
دقيقة بعد دقيقة, بدأت معالم الدهشة تتلاشى تدريجياً من على وجوه الجمهور, وملامحهم أصبحت أكثر ألفة تجاه المشهد, صعدوا على الرصيف ليعطوا السيارات حقها في المرور, باستثناء الجيب الأسود الذي بقي مرتكزاً على الجثة, وبدا مائلاً للوراء بمقدار عشر سنتميترات, ولم يأخذ وقفته المستوية المهيبة, فيما الناس يبتعدون ويتبادلون النقاش حول ما رأوا: "- آه لو كان يرتدي القميص الأزرق".
شاب ثان يستنكر: "- ما بك!! هل تتمنى أن يُدهس مشعجي فريقنا؟"
"- لا لا.. أعني لو أنه كان منا, كنا أنقذناه".
يتدخل زميل لهما "- لا تتمنى الشر لتقدّم الخير".
"- لا أتمنى.. انظر إلى تلك المرأة تأتي نحونا.. ساقيها مثل عامودي المرمى".
ينظرون إلى امرأة تقترب وعليها مشاعر القلق, تدنو من أحدهما وتسأله: "- مات؟"
"- لا.. صدره يرتفع ويهبط مثل كرة بين الأرجل".
تغمض المرأة عينيها وتنظر إلى الطريق دون أن ترى ثم تقول "- هل يرتدي بدلة سوداء؟"
"- يرتدي قميص حقير عليه رقم صفر".
تغادر المرأة وهي تتلوى مطمئنة بأنه لم يكن رجلها الذي يرتدي البدلة السوداء.. ثم تستدير للوراء حين تسمع صراخاً, رجل ثلاثيني له شاربان دقيقان يصيح بأعلى صوته, بدا كلامه غير مفهوماً في البداية لشدة غضبه, تدرج صوته وهو يقترب منحنياً وينظر إلى تحت الجيب, ثم ينتصب ويصرخ مؤنباً الجميع:
"- لا شهامة ولا نخوة ولا رجولة ولا أنوثة.. هذا زمن المغني الشاذ واللاعب الذي يُباع ويُشترى"
ينحني الرجل تحت الجيب مرة ثانية وصراخه الغاضب يعيد تسخين المكان, يلتئم الناس حوله في دائرة كبيرة:
"هذه دنية أوغاد.. أما هذا المسكين الذي لا يتكلم ولا يشكو لن ينقذه أحد.. من سينقذ هذا المسكين أيها الجهلة؟
لا أحد!! لا أحد؟"
تقشعر أبدان الناس ويقتربون من الرجل الصارخ وهو يشتم ويدين كل حيّ على وجه الأرض:
"- من سينقذ هذا المسكين الصامت يا حثالة البشر؟ من؟"
يأخذ شهيقا طويلاً ويبصق على الجميع ملء فمه:"- هذا زمن التفاهة"
ثم يمد يده على جيبه ويخرج هاتفه الجوال ويضرب رقماً ما وهو يصيح:
"- من سينقذ هذا المسكين يا حيوانات المظاهر والعري.. من؟ .. ألووو؟ هل تسمعني؟ خدمة الإنقاذ السريع؟
لو سمحت.. يوجد هنا جيب مسكين لونه أسود موديل 2011.. مهشّم قليلاً من الأمام.. يبدو أنه تعطّل"
يملي عليهم العنوان وهو يتحسس الجانب الأيمن من الجيب برأفة وحنان, وإنسانية من النادر جداً أن تتكرر.

***
في آخر النهار, والشمس تغيب, وتسحب لونها البرتقالي من الأفق, لتبدو السماء عارية بلونها الرمادي المظلم, كانت المرأة عائدة من ذات المكان وهي تمسك بيد طفلها العائد من المدرسة, فيما الطفل يحني ظهره للأمام من ثقل الحقيبة المدرسية, تلفتت الأم في مكان الحادث, لم ترَ الجيب ولا الشاب, فقط بقعة طويلة من الدم المتخثر تتخذ شكل جسد, صعدت للرصيف بحذر, فرأت الجثة ملقاة على الحد الفاصل بين الرصيف والحديقة, وجهه في التراب ويداه مبسوطتين بالعرض, فيما أثار العجلات بادية كآثار الحرث على كامل ظهره- باستثناء الرقم صفر الذي بقي متلألئاً بشكله الدائري المقطر ببقع حمراء..
تنقل الأم صغيرها إلى يمناها حتى لا يتأثر بالمنظر, وعلى غفلة منها يشير الطفل إلى الجثة ويسأل:
"- أمي هل هذا رقم خمسة المكتوب على القميص؟"
أسرعت الأم بالمشي لتتجاوز المكان, فكرر الطفل السؤال, أجابته وهي تمشي أمامه: "- لا, إنه الرقم صفر بالانجليزي".
"- ولماذا لا أحد ينقذ الصفر يا أمي؟"
والأم تسرع أمامه, تنفصل يدها من يد ابنها وتركض, والطفل يلاحقها ويكرر السؤال: "- لماذا لا ينقذون الصفر؟"
"- لأنه مدوّر وفارغ وبلا قيمة.. هيا اسرع"
والطفل يركض خلفها ولا يستطيع اللحاق بها, ويعلو بصوته لتسمعه:
"- أُمي.. والعجلة التي دهسته كانت مدورة مثل الصفر"
أٌمه تسبقه وتبتعد عنه وهو يتعب ويبطىء في المشي:
- هل القمر أيضاً مدور مثل الصفر يا أمي؟
- أمي.. الكرة الأرضية تشبه الصفر.
- والشمس التي تشرق في الصباح صفر؟
- رغيف الخبز صفر يا أمي؟
- قبة المسجد نصف صفر يا أمي؟
- أمي.. هل رؤوسنا المدورة أصفار؟
أنا لا استطيع اللحاق بكِ لماذا تسرعين يا أمي... "
يركض الطفل, خطوة, خطوتين, يجري, يلهث ثم يتعثر ويسقط على بطنه, والحقيبة تتوسد ظهره, يتمرغ بالتراب ويضرب الرصيف بيديه ورجليه.. وهو ينظر إلى أمه تختفي بين أضواء السيارات, وينده عليها ويبكي "- أمي لا أستطيع الوقوف هنا.. عودي وعلميني الحِساب يا أُمي".

هناك 11 تعليقًا: