السبت، 17 أبريل 2010

نهاية الثورة .. بدايتها




تنسحب الشمس في غفلة من القرية.. تاركة وراءها وصية ظل أسفل زيتونة.. والزيتونة على قمة جبل.. والجبل يلبس ظلاً أطول فيمد سُلطته فوق سقوف البيوت النائمة.

في أعلى الجبل وأسفل ذات الزيتونة يقف عشرة رجال عظماء, كلٌ ينظر إلى القرية فيحدد ملكه من الأرض, الكل نيام إلا هم, عشرة رجال يلتفون في دائرة مثل سبحة مكيّة, تقدّم أحدهم إلى الوسط, وأنزل حزمة ملفوفة بالقماش عن كتفه وفك عقدتها فبان ما بها من أسرار: علم, مسدس, رشاش, ثلاث قنابل يدوية, وقاذف صاروخي.. وأملاً لا يُرى.
يحدق الرفاق إلى عِـدّة الشغل بشغف, فهبّت نسمة رقيقة من الهواء تداعب الكوفيات المعقودة على أعناقهم, أحكموا رباطها بيد واحدة, واليدّ الثانية تنجذب عطشى إلى البنادق, الكل صامت وينتظر نصيبه من القسّمة (عابد, الشاب الذي لم يتجاوز الخامسه والعشرين تكاد عيناه تدمع على العلم والقنبلة) ولكنه بقي صامتاً مثل الآخرين, ينتظر تعليمات القيادة.

تقدم أحدهم إلى وسط الدائرة, فتح خارطة صفراء لموقع العدو وبدأ يشرح خطة الثورة قائلاً: "نحن عشرة رجال, سبعة منّا فقط سيقتحمون, الأول سيقصف المستوطنة بالقاذف الصاروخي, وعندها سيحدث إرباكاً في صفوف العدو, فيهجم الثاني بالرشاش ويبدأ حصاده.. ثم ينسحب. وبعد ذلك سيهجم الثلاثة الباقون بالقنابل اليدوية, أما حامل المسدس فسيبقى أسفل تلك الصخرة كي يغطي على الانسحاب.. وبعدها نلتقي هنا حيث ستبقى القيادة الثلاثية بانتظارنا.. وإذا لم يقدّر الله لنا الإنسحاب بسلام فلـ ...."
وقبل أن يكمل نهض عابد من مكانه وضرب قبضته في الهواء "إذا لم ننسحب بسلام فموعدنا في التراب الذي نُحب". حياه الرجال ورددوا معه بحماس, فعاد ليأخذ مكانه في الدائرة. وقبل أن يجلس هبت نسمة أكثر قوة فكت عقدة كوفيته, فأعاد إحكامها دون أن ينظر إليها, كانت عينه تتجه إلى المستوطنة وتدمع غضباً, وحين يعيد النظر إلى الأسلحة المرصوفة أمامه تذبل اشتياقأ, ولكن نظرة تساؤل حادة راودته في السر: "والثلاثة الباقون؟"
فجاء صوت أحد الجالسين قربه بلكنة سريعة "نحن ننفذ ويوجد غيرنا العشرات.. ولكن الأهم هي القيادة التي تفكر وتحيي من مقبرة كل ثورة.. ثورة جديدة"
كان المتكلم شاب في مثل سنه, ولا يقل حماسة عنه, أتت الإجابة سارة لعابد, ولكن لمحة حزن اختلطت بملامحه الحادة حين أدرك أن العلم سيبقى مختبئاً هنا أسفل الزيتونة.
كانت القيادة ثلاثة من كبار السن يكسو شعرهم الخفيف بياضاً حكيماً في دليل على التراكم الثوري الممزوج بالخبرة, وللمصادفة كانت أسماء ثلاثتهم تبدأ بحرف "الميم".. واقتناع عابد بأهميتهم جآء لكثرة ما سمع عنهم على ألسنة أهل القرية.. فزاد شعوره بالفخر الآمن وعاد ينظر إلى المستوطنة ويعد الوقت..
وقف الشبان وقفة عسكرية, تحولت الدائرة إلى جدار ضخم ومتراص, وزعت الأسلحة على السبعة المهاجمين, وكان نصيب عابد ما تمنى؛ قنبلة يدوية, فهو ماهرٌ في التصويب, وإلقاؤه للحجارة في الصغر أكسبه خبرة إصابة الهدف بدقة. في البدء قبض يده على القنبلة بحذر, وحين أيقن أهميتها ضغط عليها بحميميه تكاد تفجرها بين يديه, ذات الموقف مرّ به قبل ساعة من الآن, حين صرخت أُمه متألمه لكثرة ما حضنها, هو لم يخبرها بما ينوي الإقدام عليه مع رفاقه هذه الليلة, ولكن عشرين قبلة منه على كل وجهها جعلها تشعر بالخطر, فحاولت منعه حين وصل باب البيت متجهاً إلى الجبل, قالت له بصوت يحمل التأنيب والإغراء في آن "وخطيبتك مريم لمن ستتركها من بعدك؟"
فأجابها من بعيد, سأعود حالاً وإذا حصل معي حادث ما, فقدر كل مريم أن تحيا عذراء.. وغادر البيت بثياب العمل دون أن يودع أحداً, فقرار مثل الذي اتخذه يسميه عملاً أيضاً, بل أكثر شرفاً من العمل مقابل دائرة الخبز.. عملٌ لأجل الزيتون الذي تقلعه الجرافات كل يوم أمام عينيه.. أو هو عمل ثأر أقسم على تنفيذه في يوم ما حين رأى صدر طفلة مشقوق بقذيفة مدفع آكل للحم, وهو الآن كبر وبين يديه قنبلة, سيلقيها على أكبر الضباط رتبة, وربما يشترك معه القدر في التصويب ليكون انفجارها في وجه قاتل أطفال, أو قالع زيتون.. لا يهم, أي وجه أصفر غريب لا يشبه وجه هاذي الأرض.
تحسس القنبلة جيداً كانت ناعمة مثل خد مريم, مرر أصابعه عليها برفق, ودّ تقبيلها الآن, فأتاه أمر التقدم, وقت العملية, بينه وبين المستوطنة مئتي متر والوقت معه لكي يسرق منها قبلة في الطريق الوعر, إنها خد مريم, حرارتها حين كانت توشوشه قائلة "بعد الزواج سأصبح كلي ملكك" ولكن آه.. حشرج صوته, حتى القبلة لم يأخذها من مريم, ربما إذا انسحب بسلام, ولكن ربما لا يعود, من يدري, لا يهم, حسم أمره, فمريم يعرفها منذ كانا طفلين يلعبان, أما القنبلة فلم يعرفها إلا الآن, لم يشبع منها بعد, حتى يقبلها ومن ثم يلقيها لتلد ذلك البركان الذي سيحرق كل من أنتصر على اجداده البسطاء, كل من دمرّ وهجرّ في الليل, في وجه الذين يسرقون بسمات الله من وجوه الأطفال, المستقبل أهم من الحاضر.
عقد الكوفية بإحكام, تقدم رفاقه السته بخطى سريعه, نظر وراءه, لا أحد يسبقه, وفجأة استوقفهم صوت مبحوح فيه عجز السن "نسيتم التعلميات يا شباب". استجاب للصوت, وعاد بخطوات بطيئة متراجعة.. كانت أضواء المستوطنة تجذبه أكثر من أي صوت, ولكنه نداء القيادة, قسم الولاء للقادة, عاد معه رفاقه السته إلى أسفل الزيتونة, مجبرين مثله, أمرتهم القيادة الثلاثية بالجلوس في دائرة مصغرة للاستماع للتعليمات الجديدة... تقدم القائد الأكبر إلى وسط الدائرة, سعل ثم بدأ كلامه بهدوئه الرزين وقال خاطباً فيهم: "أيها الشبان, قاتلوا بشجاعة الأسود, ولكن بحكمة, وحذارِ أن تصيبوا محوّل كهرباء العدو حتى لا يردوا بقطع الكهرباء عنا.. فثورتنا تنير ولا تـُظلِم".
ردّ الشباب مع عابد بصوت واحد موافقين "هدفنا ليس الكهرباء".

تقدم القائد الثاني واضعاً يديه في جيبه "يا شباب قاتلوا كالأبطال, ولكن رجاءً لا تطلقوا النار على إذاعة العدو حتى لا يردوا بقصف إذاعتنا, وكما تعلمون يا اخوان فأنا أعمل في إذاعتنا الثورية, وإذا هدمها العدو إنتقاماً سنغدوا بلا تمويل ولا صوت.. رجاءً لا تقصفوا إذاعتهم, فثورتنا تبني ولا تهدم".
ردّ الجميع موافقين, لن نؤذي إذاعتهم.
وببطء تقدم القائد الثالث إلى وسط الدائرة, ولكن كبر سنه جعل أقدامه النحيلة تتردد, فعاد مكانه وجلس على الأرض وبدأ في إلقاء آخر التعلميات: "يا رجال أنا أقف احتراماً لنزعة الثوار في صدوركم, ولكن من أجل استمرار الثورة يجب أللا تقتلوا أحداً من العدو حتى لا يردوا بقتل أحدنا ويخمدوا الثورة, فالثورة تـُربي ولا تقتل...."
حل صمت عاجز في المكان, تبادل الرفاق نظرات مكسورة, أنهت القيادة أوامرها ثم قالت بصوت واحد "انطلقوا الآن.. عاشت الثورة".
نطق أحد الشبان من بين أسنانه "أين ننطلق؟! ماذا بقي للثوار كي ينطلقوا من أجله يا أُخوة الشرمـ..و..و.!!".لم يكمل, ولم يسمعه أحد, أحنى الثوار رؤوسهم ينظرون إلى الجبل وكأنه شمساً أرضية تنسحب من تحت أقدامهم, هبت نسمة قوية من الهواء الجبلي حلت الكوفيات المربوطة على أعناق الجميع, وتطايرت إلى بعيد, كانت تختلط بالتراب وتتراقص مثل أكياس النايلون الفارغة, لم يلتفت أحد لسقوطها, حتى بردت أعناقهم وتعرّت,
نظر عابد إلى المستوطنة فرآها تشع نوراً, أراد أن يكمل طريقه إليها وحيداً ولكن ظِل القيادة الواقفة تمادى على بصره, حجب آخر ومضة آتيه من هناك, فزاغ بنظره إلى قريته النائمة يتحسس بيتاً مضيئاً, إنها مشبعة بالظلام, صامته كالقبر, فالشمس أكملت تسللها خلسة وراء جبل آخر وسلمت كل وصيتها إلى كل الأرض. الظل الأعمى انتشر كالعتمة, فتحسس القنبلة في يده.. كانت ما تزال ملساء وحارة, أخذت أصابعه تنحدر من بين شقوقها برفق, اصطدم اصبعه بمسمار الأمان أعلاها.. تداخل محبس المسمار حتى التصق في ذات الإصبع مع محبس خِطبة مريم, فيما عيناه تزداد اتساعاً وهو ينظر إلى... اللامكان.
تُرى ماذا نوى أن يصنع بالقنبلة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق