الثلاثاء، 20 أبريل 2010

جسد مريم





بيتٌ فقير كأشجار الخريف, أرضه تراب وجدرانه عارية من الألوان, لا يزينها سوى ثلاث صور؛ خارطة منسية, وآية الكرسي, وصورة لطفل صغير لم يأتِ بعد.. والزوجان يسترقان النظر على ضوء الشمعة ويتساءلان بصمت: ماذا سيحدث الآن؟
مريم ممدة في الشق الأيمن من السرير تنتظر الغارة.. عابد يجلس متأهباً للنزال. إنها الليلة اللامعدودة من سنواتهما الزوجية الخمس, يبدءان الليلة بصمت, فيتحول إلى اشتباك حميمي لا ينفض إلا بعد كفاح صريح, تتوقف الساعة عن السير .. تتسارع الأنفاس في الأخذ والعطاء, وينهيان العمل بضحكات شاكرة وعيون ضاحكة.. ويعود الصمت. فيتراجع كل منهما ثملاً إلى شقه السلمي في السرير, ويبقى ما بينهما من رائحة عاطفية يحملها الندى.. يسميها عابد بعرق المحاولة.. محاولة إنجاب طفل لم يرزقا به إلى الآن.. والطبيب طمأنهما بأمل الحمل هذا العام, والحمل يأتي بالمحاولة.. الحل يأتي بالأمل..
هي الليلة اللامعدودة.. ينظر عابد إلى صورة الطفل المعلقة, يستمد من وجهه الطفولي مقوياً أبوياً يقويه في الحرث, ثم يهمس للمستلقية بجانبه بصوت دافىء "ما رأيك ان نغير ميدان المعركة يا مريم" فتبتسم مريم ابتسامتها الزهرية الخجولة, وينزلا فرشة السرير ويلقياها على التراب لاستحضار الفأل الحسن, يريدها عابد أن تحمل منه كما الأشجار في الحديقة, كما البذور في التراب, تستلقي مريم على الفرشة الأرضية هذه المرة, تنظر إلى عابد وتندهه بصمت, تكاد تقول حاول, فميدان الحب هذه اللية مختلف عن كل الميادين السابقة.. عن كل ليلة فاتت لم ينالا من عرقها سوى الإشباع, وماءٍ لا يثمر, وحرب لا نصر فيها, وانتصار لا يأتي كي يتقاسماه.. وهل النصر يقتسم؟ بين عابد ومريم نعم. هما جبهة واحدة ذات لحم موحد, يحدث بينهما انشقاق فيتحاربان بشراسة الأعداء, من أجل ذات الهدف المعلق بقدر قد يأتي فجأة, من أجل ذات الأمل .. أمل الإنجاب الذي يضع حداً لغلب الحياة. وضوء الشمعة يتكلم, يفضح, يدل الرغبة, ولكنه خافت, وعابد ينظر إلى الحورية تنتظره بلا صبر, بلا إيحاء, حورية تلمع في الضوء, بحيرته التي يغرق في أمواجها كل ليلة, استجاب للنداء, اقترب منها أكثر, خلع درعه وخلعت هي آخر حمايتها, وبصمت خجول اتفقا على البدء... تمدد قربها شاهراً كل أسلحته.. تقلبت هي فاتحة كل قلاعها لاستقباله. ضحكت له, وما أن مد يده لاكتنازها حتى اندفعت هاربه إلى البعيد, إلى آخر الفرشة, لاحقها زحفاً فوقفت على قدميها, لاحقها راكضاً في الغرفة ولكنها أسرع منه.. وحين قبض عليها وظن الدلع قد استسلم للجد, فإذا بها تدفعه للوراء بعنف, فسقط مترنحاً على التراب من غير حب هذه المرة, رفع عينه إليها فرآها عارية من كل شيء وصامته كتمثال, تركته أرضاً ودون أن تلتفت إليه مشت من أمامه لامبالية, واستلقت على الفرشة ونامت كالموت.
إنها الليلة الأولى التي تكاد تمر على الزوجين بسلام, لم تطلب منه الهدنة طوال خمس سنين, والآن تقاومه كأنها من جبهة معادية. لم ينطق عابد بحرف, حاول أن يرضى, وقف على قدميه, لبس درع النوم, واستلقى على ظهره بجانب الجسد النائم, ونده: مريم. لا إجابة, عيناها مغمضتان وجسدها متحجر, حاول مراوغتها بخبث, ففتحت عيناها عن دموع هادئة ودفعته للوراء, ضربته على صدره, وأغمضت عينيها,إن عينا مريم حين تضيئان كالريم, وحين تغلقهما كأن الشمع انطفأ. استسلم مجبراً, حاول أن يفهم ما يحدث, فأشعل سيجارة تنير عتمة الدهشة, يبحث في دخانها عن إجابة, ولكن السيجارة نفذت, فأطفأها وألقى بثقل جسده محاولاً النوم, ولكن دون جدوى, فالتفت إليها , ما زالت مغلقة العينين, ولكن حركاتها غريبة, رآها تتلوى على نفسها كالأفعى, وتئن متألمة من لاشيء, أما يدها فكانت تمشي ببطء على كل جسدها تتحسسه من أعلاه إلى وسطه ومن ثم أدنى وأدنى. صرخ: مريم. فعلى صوت تأوهها أكثر, فأدرك أن الذي تفعله لا تفسير له سوى أنها تمارس الحرب مع جسدها دون الزوج. ما دوره هو؟ إن هذا النوع من الحروب لا يصنع نصراً ولا ينجب أملاً, صرخ كالمجنون مرة ثانية ولا إجابة.. مريم .. مريم!!. ولكن الصدى ارتد من الجدران حاملاً تأوهاتها الثملة, أمسك يدها فلم يستطع إيقافها, إنها تعمل كآلة مجنونه لا يقودها أحد, لم تترك في جسدها رقعه دون أن تعبث بها.. غادر عابد الغرفة مسرعاً وعاد يحمل زجاجة ماء باردة.. وبلا مقدمات قذفها بالماء, فانتفضت عن الفراش وهي ترتعش, فتحت عيناها ونظرت إلى عينيه, لمعت دموعها في العتمة, مدت يدها نحوه تريد إمساكه مستغيثة ولكنها انجذبت إلى السرير واصطدمت, وكأن أيادي خفيه تسحبها إلى الفراش, أما هو فأعجز من أن يحاول فعل شيء سوى التحديق بها, عاود نداءه, مريم. لم تجبه سوى بالدموع وبيدها التي تحاول إطالتها كي تصل إليه, مد يده إليها ولكنها دفعته. قبل ثوان كانت تحاول إمساكه والآن دفعته وكادت ان تأذي وجهه, فعاود سكب الماء عليها, ارتعشت من البرد ثم حركت شفتيها وقالت ببطء: "انسى مريم.. مريم الآن لي".
لم يكن ذلك الصوت الخشن صوتها, الكلام يقصف كالرعد ولكن ببطء متقطع "مريم لي أنا, انساها". وحل الرعب. "مريم لمريم؟" استبدل عرق الشهوة والمحاولة على جسده بعرق الخوف, ومريم ليست أٌقل منه تناقضاً, فجسدها يتلوى على صفيح حار, ولكن عيناها تفيضان دمعاً, وعابد يشد شعره ويدور حول نفسه التفاف المحترق, ثم يصفع خديه لقسوة الحيرة "ما الذي تفعلينه بجسدك يا مجنونة" فيأتيه ذلك الصوت الخشن من بين شفتيها "هي لا تفعل.. أنا الذي أفعل بها". وتبدأ تتأوه.
وعابد سلاحه الماء, كلما بدأت رشقها به, فيعود صوت الرعد يضحك, أما الزوج فيسأل ويجيبه الصمت أو ذلك الصوت المستفز "اتركها فأنا أحق بها منك يا عقيم". ويضحك ويكمل "اتركها لي وانا سأملأ البيت بالأطفال" فضرب عابد رأسه بالحائط ضربة عاجز, شعر بماء حار ينساب على جبينه دون ألم "هل أنتِ مريضة يا مريم .. ستنجبين من نفسك؟" فأجابه الصوت الخشن "أنا الذي سانجب منها أيها العقيم". ثم تكمل جنونها, وعابد يلف البيت تائهاً لا تقوى أرجله على حمله, أخذ يغرس أظافره في وجهه فيزداد سخونة وينقلب لونه القمحي إلى الأحمر, دماء على سطح الجلد, ودماء تغلي داخل الجسد ولا حل سوى الماء الذي يبرد زوجته لثوانِ ثم تعاود العبث, " ضاعت مني مريم .. لقد جُنّت.. هل جننتي يا مريم؟", لقد حكم عليها بالجنون وربما على نفسه أيضاً, دق رأسه بكل حائط في البيت, حطم كل أثاث الصالة, وحين يسمع تأوهها الحميم, ينطلق مفزوعاً إلى غرفة النوم, عيناها تدمع وجسدها راضي, إنها مغصوبة, تحاول أن تمد يديها ولكن شيئاً لامرئياً يمنعها, كان الماء هو الحل الغالب.. تهدأ وتأتي ضحكات بشعة وكلام يسرق آخر ما في عقل الزوج: "عابد قلت لك إنها من حقي.. فالعقيم لا يستحق زوجه بكل هذا الجمال".
فصرخ عابد – من أنت؟.
ضحكت وبكت ثم خرج الصوت الخشن من داخلها - أنا شريكك منذ اليوم.
- أنت الشيطان؟
- سمني ما شئت ..
وبلا وعي هاج عابد وانقض على مريم وجلس على صدرها, لف يديه حول رقبتها لينتزع كل روح تسكنها, خنقها حتى ابيضت عيناها, أخذ يصرخ حتى بانت شرايين رقبته العارية,أخذت تسعل, خرج لسانها من فمها, وفجأة عاد لعابد الوعي, وأدرك انه سيقتلها هي, يقتل من يحب, فاستبدل الصراخ بالدموع, بكى فوقها مثل غيمة, ثم قام عنها فعادت تتنفس, وفتحت عينيها وبكت أكثر منه, ولكن لسانها معقود, فهي مُحتلة بشيطان سادي يفعل بها ما يشاء ويمنعها من أي فعل, حتي الكلام لا تقدر عليه. "لماذا اخترت مريم ..
مدت يدها إليه تكاد تقول خذني منه. ولكن لا قوة للزوج الذي يحارب الهواء.
- تقاسمها معي أيها العاجز حتى لا نفقدها نحن الاثنين.
صمت عابد لفترة وكأنه يفكر بالأمر, نظر إلى صورة الطفل المعلقة على جدار الغرفة على يمين الخارطة المنسية, الطفل الذي ينتظرانه, فقال في نفسه "أي شيء إلا الفقد.. أي خسارة إلا أن تبقى مريم على هذه الحالة.. لا أحد منا يملكها" وحل الصمت لبرهة, وبعدها جاء الصوت الخشن: – تقاسمها معي. صمت عابد أكثر وبدأ يحدث نفسه "أنا فعلاً عقيم وأحرم زوجتي ونفسي من الأولاد, ماذا لو تقاسمناها وأصبحنا جسدين على جسد, لن يعلم أحد ابن من الذي سيأتي". ثم أقترب من الحائط وتحسس صورة الطفل, فجالت الأفكار في رأسه "لو تقاسمناها ستبقى مريم أمام كل العالم لي, والأطفال لي, لا تهم الحقيقة المرة ما دامت في السر, فالمهم أن اكون أباً وزوجاً في آن وأمام الجميع أيضا, ربما لا يأتي الطفل شبهي, ولكن الأهم أن يأتي, من منا يشبه أباه في هذا الزمن الضّال؟!". تمشّى في الغرفة قليلاً ثم أتجه صوب مريم وقال: "موافق.. سأتقاسمها"
فأجابه الشيطان – حسناً أنت عاقل ولا تريد الخسارة.. انا سآخذ أشد أجزاء جسدها حساسية ولك الباقي.
لم يفهم عابد ما عناه – ماذا ستأخذ بالضبط؟
ضحك الشيطان ثم بدل صوته إلى الجدية والحكمة وقال– إحم.. لي أشد أعضاء جسدها حساسية حيث الشامة المقدسة هناك.. أنت تعلم أين أقصد.. أشد الأماكن قدسية في الجسد.
ويا للغرابة, ضحك عابد مثله.. ولكنها ضحكة مهزوم, ضحكة مكبل يائس – لك ماذا؟. ثم ضحك أكثر ضحكة فاقدٍ مودِع – وماذا يبقى من مريم؟ عاد صدى ضحكاته إليه ثم ركع على أرضية التراب, وازدادت ضحكاته تسارعاً, وهو يتمتم بلا معني, فوقف على قدميه مترنحاً كالأعمي ومشى نحو صورة الطفل, رفعها عن الجدار وأسرع بها نحو الشمعة وأشعل بها النار.. وهو يضحك بهستيريا ويصرخ في الصورة بأعلى صوته: لا أريده .. إذا لم ياتِ من ظهري فلا أريده. فتطاير رماد الصورة في العتمة حتى تآكلت عن آخرها وهو يصرخ كالمدفع: – تريد أخذالجسد وتعطيني العار. وضحك أكثر, وبكى أقل, أما مريم فتنال عقابها لرفض الزوح, فالشيطان يجبرها على العبث بجسدها .. تشعر بأن يدها سكين تقطّعها عنوة, ولا شيء بمقدورها أن تفعله, فلسانها عقد عن القول, تأتيها دموع عابد فتبكي مثله, وحين يضحك ينقطع نفسها حزناً عليه, هي حتى ترقبه خجله من جسدها العاري أمامه, ولكنها غير قادرة على مداراة لحمها, ظنت نفسها جثة هامدة, أو صخرة أحتلها الشيطان ويمارس فيها فنون الاغتصاب.. هي أرض تأبى من عليها ولكن الأرض تكتفي بالانتظار, حسبها تبقى كما هي, لا تقوى على استباحة الشيطان لجسدها.. حتى لو غير الشيطان اسمها الآن فلا تقدر على منعه, كل أملها معقود على هذا العقيم المسكين الذي يبقى يقول (إلا مريم), ولكن هل يكفي القول فقط والماء البارد.. يا للآمال التي حاربوا من أجلها وكل حرب تتبع بهزيمة.. خمس سنوات من الحرب من أجل أمل الطفل وكانت النتيجة ضياع الرحم والجسد. علت ضحكات عابد التي تكاد تدمرها أكثر من بكائه, وهي تتساءل بصمت: لم غادر الغرفة وتركني وحيدة مع مُغتصبي, هل هرب, هل وافق على القسمة, هل تنازل بتلك السهولة واكتفى بالبكاء والصراخ. كان صوت عابد يأتي من خارج الغرفة مشوباً بالحدة: – ماذا يبقى منها .. هو يتكلم عن اقتسام جسد وانا اتكلم عن لحم زوجتي, شرفي. اقتربت خطواته المسرعة المتقدمة, فظهر ومعه زجاجة أخرى غير الماء البارد, تقدم إليها أكثر ورشقها بالسائل, اشتمت رائحة السائل المصبوب على جسدها, لم يكن ماءً ولا دموعاً, كان يشبه رائحة الجاز, هجم على الشمعة مسكها بكلتا يديه وهو ينظر إليها كالمجنون كأنه يحتضن قنبلة, وقف فوق جسدها العاري والمبلل بالجاز لا يدري ما الخطوة القادمة, فأتاه صوت الشيطان مرعوباً يتخلله رجاء التوقف – "لا تفعل.. سأكتفي بأي مكان آخر غير الشامة التي اتفقنا عليها"
فضحك عابد وعيونهه تبكي: – إما كل مريم أو لا مريم.. لا غالب إلا النار.. لا غالب إلا النار.
استنشقت مريم رائحة الجاز أكثر, أرادت أن تتكلم لم تستطع, ففتحت ذراعيها تريد ان تحتضن شيئاً قد يأتيها, ولكن يد عابد المرتجفه أخافتها, أدركت عجزه عن الإقدام, فأخذت نفساً أكثر عمقاً كان مليئاً برائحة الشمع والجاز, فتحت ذراعيها أكثر, انسلت من شيء يحكم أسرها, وفجأة انتفضت عن الفراش كموجة البحر وأنقضت على عابد.. حضنته وحضنت الشمعه.. التصق الجسدين كالحطب المتوهج, شدها إليه أكثر وهي تقبله.. أراد ان يسألها "لماذا إنتحرتِ؟" لم يستطع, كان جسده يتآكل محترقاً. أرادت أن تسأله "لماذا ترددت في حرقي مع مُغتصبي؟" لم تقدر, فلحمها يتحرر بالنار قطعة وراء قطعه. أمتلأ البيت بضوء النار والدخان ورائحة اللحم المحترق, وقبل آخر نقطة إحتراق في الجسدين, قذف عابد ما بقي في ظهره من ماء ذكوري على التراب.. كان هذا آخر فعل مقاوم له.. آخر أمل, فهل سينجب من التراب هذا العام كما طمأنهماالطبيب؟
توققت الساعة عند رقم الكارثة 19:48
ولكن بلا زوجين ولا أنفاس.
فقط بيتٌ فقير كأشجار الخريف, أرضه تراب وجدرانه محترقة بالنار.. لا يزينه سوى صورتين؛ خارطة لوطن مُقسّم, وآية الكرسي, وأمل إنجاب طفل قذف أبوه نطفته في التراب.. والجيران يقفون على الحياد ويتساءلون بصمت: ماذا سيحدث الآن؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق