المستشفى هادىء مثل قبر، يبدو أن لا أحد يمارس البطالة اليوم سوى ثلاثة: المُستضعَفين، والصحفيين، ونحن الأطباء.. كدنا نعيا. وفجأة جاء الفرج، سدّ مدخل المستشفى حشد من الناس يحملون مصاباً، نظرت إليه، كان شاباً وسيماً في العشرين من عمره ويرتدي قميصاً أسوداً ودمه ينزف مثل ماء زمزم، أما ظهره فمخروق برصاصة واسعة الأثر، حملناه وأسرعنا به لغرفة العمليات، ثم أسندناه على السرير برفق، وقبل ان نخلع عنه ملابسه أعطيناه إبرة ضخمة من البنج، وكلٌ منا رفع عدته المعدنيه للبدء، ولكننا تراجعنا حين رأينا خطورة الإصابة.
إن ظهره مخروماً بإتقان والجرح مشوّه، ودمه الأحمر مختلط بسواد الحروق، فاستدعينا عجوز الإطباء المختص بالعمليات الحرجة، وجاء الحكيم مسرعاً، اقترب من المريض، وقبل أن يباشر العمل، توقف فجأة، شدّ القميص انتباهه، فأخذ يقلّبه، قلّب القميص أكثر من مرة مثل ترزي.. ظهرت علامات اليأس على وجه الحكيم، فخلع قفازيه وأحنى كتفيه، ومشى ببطء مغادراً غرفة العمليات، فركضت وراءه مسرعاً:
- ألن تبدأ العملية يا دكتور؟
فقال دون أن يلتفت: لن تنجح
- لنحاول!
- حتى لو حاولنا لن تنجح..
- لماذا؟ لقد عالجنا إصابات أشد خطورة منه.
أكمل الحكيم خطواته المسرعه حتى وصل باب المستشفى وهو يحاكي نفسه بصوت عال:
لقد توفيّ والده بين يديّ قبل عشرين عاماً، وكان يرتدي ذات القميص الأسود ومصاباً بذات المكان في الظهر، دعوه يلحق أبوه، اتركوه ينفذ الوصية.
ثم ألقى قفازيه على الأرض وصرخ يائساً "عائلة لا تتعلم.. عائلة تُهاجـِم بظهورها.. عائلة لا تـتقد..م..."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق