أنقل إليكِ هذي الرسالة بالمجان.. مثل كل المعجبين بفقرهم.
أحدهم يشبهني بالملامح, أرآه منذ سنين يفترش قارعة الطريق وينتظر شيئاً لا يأتي.
البارحة أصبحت صديقه, فأخبرني بسره العظيم:
كان أول قسم في حياته أن يخرج أحشاء الرئيس, ويجرها في أزقة مخيّم ما, ثم يدعو المنهوبين للعبة شدّ الحبل. ولكن أمله خاب حين شارف الرئيس على الموت الطبيعي.
فلم يبق لصديقي سوى أن يمارس لعبة شدّ شعره على عمره الضائع.
وربما كنتِ أجمل أحلامه الضائعة.
"النهار لا يحقق أحلام البسطاء"
***
قال: في زحمة الأرقام, من يتذكر يوم ميلادك الماضي, اعطه نصف العمر.
قلت: من فينا يتذكر يوم ميلاده في زمن عقوق الجذر، وأرقام السيارات.. وبطاقات السفر. من فينا؟
قال: من نسي ماضيه فليرجم أُمه ويقيم عليها الحدّ، فالماضي هوية الرحم، والنسيان وليد المغتصبة الراضية، أما التذكر فمهارة الشرف الباقية.
قلت: من فينا الآن يتذكر يوم ميلاده, وعلى أي أرضِ سقط رأسه, وأي سكين صدأ قطع حبل السرة؟! من فينا يا رفيق الطريق من فينا.
قال: أنا أتذكر كل ما فيها, مثل شهوة أفق. أتذكر لدغتها بحرف الراء -واء-. تنورتها القصيرة وهي في العاشرة، غمّزات الخدين, وخجل الخدين من الأقرباء. أتذكرها بالمجان مثل كل الخاسرين الحافظين وعودهم, وغداً ستدخل عامها الرابع والعشرين. لا أعلم عن ثلث عمرها الأخير شيئاً.. كبرت ثمان سنين بأنانية السر.. وغدت ذكرياتي معها مثل مفتاح اللاجىء, لا يفتح شيئاً ولن يغلقه النسيان. ربما علمها غيري لغات جديدة لا (راء) فيها.. وربما طولت تنورتها لتداري أثر عيني. يخونني التخمين..
قلت: وهل يهم اللاجىء إتساع بيته المسروق غرفة أو غرفتين؟
قال: للذكرى تقاطيع الراحة. اللوم سمٌ للنسيان. وكلمات النشيد وطن المبعدين. أتخيلها الآن عائدة من الوظيفة, في يدها اليمنى ربطت خبز, وفي اليسرى حزمة شمع, والحضور كل الأهل ما عداي, يغرسون أربع وعشرون شمعة صغيرة في الكعكة الكبيرة, يقترب شقيقها الأكبر ويشعل شموع الميلاد, ثم تقترب هي من بين أخواتها الصغيرات,
تأخذ نفساً عميقاً وتنفخ في النار, ولكن ولا شمعة منهن تنطفىء.. فتعاود الكرة بعاصفة أكبر, ووسط تصفيق الجميع تضحك منتصرة, ظنت أن جميعهن أنطفئن , ولكن همس الحضور يقلقها, لتفاجأ بأن ثلثهن لم ينطفىء. الشموع الثمانية اللاتي كبرن في بعدي يبقين مشتعلات ويبكين.
ست عشرة شمعة منطفئة لن تكفي لإتمام الحفلة.
"النار تأبى أن تأكل حق الغرباء"
***
كل ما حولي يغريني بالنسيان, حاولت مراراً الهروب إلى غيري, إلا أن نسياني الدائم يوقفني, وإشارات الوقوف تصنع الهوية, البارحة حاولت الركض مع الريح. مشمئلاً. مغرباً, ولكني تعثرت بالرمل وسقط, فعلمت أن الذي أوقعني نسياني فردة حذائي في البيت, وفي الهروب لا تكفي الفردة الواحدة, فعدت منتصراً على النسيان وشاكراً فقر المحاولة.
اليوم علقت الفردة التي هربتني على باب البيت, لألقي عليها تحيتي العسكرية كل صباح: عمّ صباحاً يا رئيس البلاد المجاورة!
- ......... (صمت)
وأنتِ.. كيف هربتي مني يا أنا؟
- طول الإنتظار؟ - وهل للإنتظار حدودود؟
- الفرصة المناسبة؟ - لم لا نصنعها نحن؟
- الشاهد والمأذون حضروا فجأة؟ - انتحار جولييت أحيا الرواية؟
- ضيق الأهل؟ - كيف يقطع الأهل أجمل ورود الدار؟
أم أني الوحيد الذي رئاكي وردة ؟ .... هل أنا الأهل أم غبار الأقارب؟
من أنا يا أنا المغتربة؟
_ ...... (صمت)
****
غداً, ستدخلين جريئة عامكِ الرابع والعشرين, الشمس فوق البيت تنسى أن تغيب / تخجل ضوءً. وعلى الطاولة كعكة الميلاد المستديرة, والحضور أنتِ والعائلة وشخص غريب لا أعرفه أخذ مكاني, يصفق الجميع, والغريب الحاضر يحمل طبقاً فارغاً وينتظر القسمة. تمتشقين سكيناً حاداً للقطع, والكل يرقب الجميلة المسلحة, تقتربين ببطء الواثقات بكيدهن, وتطعني الكعكة مثل قاتل, فتنقسم لثلاثة حدود: الثلث الأول لكِ ولوالديك. والثلث الثاني لأخواتك الجميلات...
يقترب الغريب الحاضر للثلث الثالث, يحاول رفعه عن الطاولة فلا يقدر: لأنه حقي الثقيل القاسي المرّ, وإن انحنى مثل ذئب لأكله.. ستتكسر أسنانه عليه وتفشل المحاولة.
"فالله يحفظ حقّ الغرباء"
*****
الليلة, سأغير ملاءة سريري الغريب, وأتمدد مثل أطفالك الآتين, أضع الساعة قرب طفائة السجائر وأرقبها مثل منبه قنبلة توشك على الإنفجار.. والعقارب سيفان يلتقيان, وقبل أن تغلق الساعة الثانية عشر إلا دقيقة سأسحب البطارية وأوقف العدّ, وتبقى طول العمر ثابتة: الثانية عشر إلا دقيقية.
آه كم أحتاج تلك الدقيقة لأقول لكي: لن تكبري أكثر, ستبقين ناقصة .
أربعة وعشرون عاماً إلا دقيقة واحدة بقيت لدي.
"لا شيء فيكي سيكتمل في بعدي"
*****
سيسافر النهار غداً بهدوء, تجاوزتي يوماً حافلاً, لقد فتحت سنة جديدة حلم بها الكثير من المتجمدة أعمارهم, ولكن قبل النوم ستتذكرين شيئاً: " لم يحمل تلفونك المحمول تهاني العام الجديد".
فتنتفضين من السرير مسرعة: "هل كان مغلقاً؟"
فتجدينه مفتوحاً وجافاً من الشعارات, تأتيكي فكرة آثمة بأني عطلت شبكة الإرسال. لالا, كل شيء على ما يرام, ولكن يبدو أن لا أحد غيري يتذكر تاريخ ميلادك, وأنا فقدت الرقم والعنوان.
"وما زال في الأرض شفاء"
****
البارحة حلمت بمشهدِ غامض, زارني صديق الطريق مصلوباً بين حرفي "لا", كان حزيناً ويرثي وردةً قطفتها له غجرية, قال " كيف تتمنى لي العمر/ وهي تجود بأنفاسها الآخرة"!!
لو أني لم أفق من الحلم لرجوته بدرسِ من الشعر - كي أرثي المختطفة, بأسلحة السطلة الفاسدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق