السبت، 5 يونيو 2010

أنبياء في المعرض الحربي





يُقال بأن أمه لم تكن امرأة. كانت غزالة وماتت ساعة الولادة، وأن التي ارضعته غيمة طائشة. ويُقال أن أبويه كانا بشراً وأن خسوفاً قمرياً وفر لهما ظلاً لخلوة إنجابه.
ويُقال أن ذئبة عوت ليلة ولد فشهقت وعاشت إلى الآن تحتضر .
ويقال:
ولد وحيداً لأبوين وحيدين، من عائلة واحدة كُذبّت كل أساطيرها، وهذا يكفي لتفرده المعجزة، يحيى كما الأنبياء البسطاء، أمعاؤه حُرمت البيت، وهو المُحرِم.
لا أحد يحاصره -كما يُدعى، نفسه هي التي تحاصر جسده بأقفال الرفض، وحين يجوع يطلق مكابح قدميه ويلتهم بأسنان الحذاء كل الشوارع الجبانة.
يمشي، يسير، ينظر، يطير، ليس أمامه سوى الطريق، على يمينه امرأة جميلة تلبس طرحة سوداء وتنده : فستان زفاف غير مستعمل للبيع !
سألها: كفنٌ أبيض هذا أم فستان ؟
لم تجبه، فأكمل الطريق، كل الصور أمامه متجمدة، حافلة الجيش تسرع في مكانها، العلم يشبه السارية، مياه النهر متوقفة، كل المشاهد ثابتة، يتوهم هو؟ ربما. فتح كتابه وقرأ سورة الغاشية، فانقلبت الرؤية، ذات الحافلة تطير والعلم يخفق مستلسماً للهواء، ومياه النهر تصعد للغيم...
يتناقض هو؟ لا يمكن!
اندفع في وجهه مبنى اسمنتي، طارده كالماضي، كاد يشقه نصفين لولا تعلقه بالباب النحاسي وصعد (أهلاً بضيوف المعرض الحربي) خالِ من الزوار باستثناء دليل سياحي يمسح عن الصور الغبار، خمس صور ثابتة وهو الوحيد الذي يراها متحركة، شكر نعمة الشك .

(اللوحة الأولى)
صورة قديمة لسيناء، التقتطها طائرة معادية، فيها موسى يصعد جبل الطور، ويكلم الله في أمر الخلق، وعلى الرمل عشرة جنود يقيمون صلاة الظهر، ثم ينتصبون ويرددون الأدعية، أنا الوحيد الذي يسمع الأدعية..
جندي أول: حاصرونا؟
جندي ثان: خانتنا الأسلحة؟
جندي ثالث: سنتوحد في الرمل ونكون ملوك الصحراء !
ورددوا جميعا: خذينا يا عروبة، يا قضيتنا العادلة.
أتت مجنزرة من الخلف يقودها (وحيد العين*) قرأ تلمود الحرب على سيناء، ودهس الأسرى،
وصلت رائحة الدم إلى موسى على جبل الطور، فهبط يتعثر بالرمل، لملم أشلاء الشهداء ثم طلب من اللة أن يراه، لم يستجب الله، ولكن, يداً خفية جمعت لحم الأسرى وأُعيد الخلق، ثم طاروا في سمائه كالحمام، اطمأن قلب موسى فركع لله وصلى.

(اللوحة الثانية)
صورة ملونة لسيناء، التقتطها سائحة محايدة، فيها يوسف يعمل عتالاً في القصر، يستورد القمح من الميناء ويبني أحجار الصوامع.
لا صوت يأتيني منه، يوسف جميل وصبور، احترف الصمت.
شرقي الصورة عشرة جنود يدوسون الرمل، ويرددون أغنية مستوردة، كل الأرض تسمع الأغنية!
جندي أول: نحاصرهم؟
جندي ثان: نفذوا أوامر القصر.
ورددوا سوياً: خذنا يا نسيان، يا سيد الدبلجة.
حلقت فوقهم طائرة يقودها (وحيد العين)، قرأ تلمود السلم على سيناء، وحرق "غزة".
صَرخت: يا يوسف دع القمح، اللحم المحروق أهم!
- قد ردائي من دبر
يا يوسف, شرف الدم المهدور أهمّ!
امرأة فرعون راودتني!
الكل مشغول بالقمح ونزوات سيدة القصر!
رفعت القلم وعلى الصورة كتبت : مصر غادرت مصر و(ديّان) ما غيّر البوصلة.
أتناقض أنا؟ ربما, أكذب؟ لا يمكن، كل العالم رأى الصورة عارية.

(اللوحة الثالثة)
صورة قديمة لليلة الإسراء، منزوعة من كتاب، فيها النبي يفك قيد العبيد ويعمر الصحراء، التف عليه من الظهر سفهاء القوم، مزقوا ثيابه، شجوا رقبته، وأطلقت البنادق الطائفيه عليه النار، فأتاه ملاك الحرب منجدا، أؤمرني أطبق الجبلين، نهاه واستلقى مغلوباً على الرمل غرقاً في دمائه، وفي المنام أيقظه طائر مجنح، بسبعين شراع، ترك النبي وصيته على الرمل {النار أن تحفظوا اسمي، الجنة أن تتبعوني} ثم اعتلى الطائر وسافر إلى الصخرة، وهناك كان ما كان..
يقولون هدنة حربية، قالوا رحلة استجمام، وقال السفهاء إنه لم يغادر البيت الحرام، وحين عاد وجد رسالته ممزقة ومدقوق في نحرها سيف وكلماتها مقلوبة {النار أن تتبعوني، الجنة أن تحفظوا اسمي}
فتداولت عجائز قريش الرسالة الثانية, وانتشر الإسلام مقلوباً في الصحراء.
أسفل الصورة كان مكتوباً، حقيقة ما وصلتنا خطأ، أو خطأ ما أوصل لنا الحقيقة.
شطبت الجملة وعلى أنقاضها كتبت:
نحتاج لنبي يدعونا ألفي عام!

(اللوحة الرابعة)
صورة حديثة لليلة الإسراء، لا أنبياء فيها، الأرض هي الدعوة، والأطفال يحملون فوق ظهورهم صخرة، كلما تلوحت في الهواء، تمدد أحدهم تحتها ورفعها عن التراب، فينصهر لحمه كي تبقى معلقة.. حتى قاربوا على الإنتهاء، تصدعت الشروخ في الصخرة، ومؤشر الأرض يترنح تعباً منبئاً بزلزال.
قال مؤمن من أرض النبي: أطفال حالمون.
مؤمن ثان : يريدون جرنا للمعركة.
مؤمن ثالث: الأرض في استقرار
كان مكتوباً، ذرية أبهرة الحاكمة.
أسفل الجملة كتبت: لا يؤمن أحدكم حتى يحمل السيف ويقلب <العائلة>.

(اللوحة الآخرة)
القائد المهيب معلق بنخلة، تلتف حوله كتيبة مقنعة: اشهد بأننا آلهة الأرض.
قال: أحدٌ أحدٌ، لله الأرض من قبل ومن بعد.
تقدم كبيرهم وعضّ الحبل، كل خيط تمزق ينسج فكرة، فهوت به المشنقة، اخترقت روحه الفرات وإلى الأعلى طار الجسد.
تجاوز سماء المحكمة، أعلى السحب، فوق الصمت، طار وراء الشهب
صرخت: يا إلهي هل يعرج هذا المشنوق إليك ؟ ابن من هذا الآدمي ؟
اقترب مني دليل المتحف وهمس: كاد يكون نبياً، هذا القائد لم يكن مسيلمة.
أمسكت القلم وعلى اللوحة كتبت: قائدنا الذي في السموات، كل أهل الأرض هزموا إلا أنت وهذه الصورة حسمت المعركة!
*****
توقف المعرض الحربي في ذات الشارع، وأنزله على ذات المحطة، وضع قدمه على الرصيف، فارسترد صوته مني أنا المترجم الأميّ، وقال: إذا تمهلت الحياة قليلاً سأستقيل يوماً من حصاري.
ثم وضع قدمه على الشارع فكانت الدنيا تدور مسرعة.
المرأة ذات الطرحة السوداء تحمل قطعة خبز وتختفي خجلة، وبائع خبز يفترش فستانها الأبيض، ينده ويتألق بالصوت : فستان زفاف مستعمل للبيع.
نظر إلى الفستان كان على الفخذة بقعة دم متوهجة!
بكى، إذاَ تمت المبادلة!
ثم أكمل سيره عائدا لحصاره الاختياري، وحتى يصل سالماً رفرف متنكراً بين المستبيحين والمستباحين كالإمعة.




----
وحيد العين: الصهيوني الأعور موشي ديان الذي داس بالدبابات أسرى الجيش المصري وهم أحياء. حرب 67

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق