الأربعاء، 30 يونيو 2010

مِنشار المذاهب



أحذني صوت الصراخ فركضت, وسرت مع السائرين مثل رصاصة ساخنة, شارع ينشقّ عن شارع, وزقاق يتفرع من طريق,أجري، أطارد، أتحوّل إلى ريح, كلما ضاق صدري تعباً اتسع فضولي, كان الباكي المستغيث يصرخ عبر مكبر الصوت, وينده طالباً النجدة, هل الصوت يأتي من الجامع فعلاً؟
أسأل, ولا إجابة من الراكضين حولي مثل الظل, أحدهم يشير إلى الحي الشرقي من المدينة:
الصوت يأتي من هناك, من الجامع؟
لا وقت للإجابة, فالأقدام المسرعة تضج والعيون تنظر إلى اللامكان, فقط الأذن هي من تقود, من حارة إلى حارة، وكلما انقطعت أنفاسنا يعلو الصوت أكثر, حتى أصبح مفهوما من بين دموع الصارخ <<النجدة يا بشر>> تتبعنا الصوت وتقلبنا فوق بعضنا البعض, ديست الأبدان على الرصيف ولكنا أكملنا من فوق الحواجز حتى اصطدمنا بمدخل الجامع مصدر الصوت, للوهلة الأولى هدأت فتنة الأقدام, وتوقفت مع الواقفين على باب المُصلى, نظرت إلى الداخل, رأيت المصلين يلتفون في حلقة صوفية حول شخص مسجّى على الأرض, وكأنهم قبضوا على متسلل, قبضاتهم ترتفع بالهواء وتهوى خاطفة في الوسط حيث الهدف, أما الراكضون فكانوا يدخلون للاستفهام عن المضروب, وما أن يسمعوا الجواب حتى ينقضوا ويشاركوا بالضرب, سمعت أحدهم يهمس <<أنهم يضربون الشيخ>> ثم يهجم القائل ويطير في الهواء فيهوى وسط الدائرة على رأس الشيخ تماماً. هل أصبح الضرب في الجامع عبادة؟!
سألت ولا إجابة, الجميع مشغول بجسد الشيخ الذي يتلوى بين أرجلهم مثل كرة يتبادلها الحفاة, وكل ضربة لا تصيب الشيخ كان يستغلها ليحبو على رؤوس أصابعه فيلقي بجثته على المنبر ويصرخ " … help me يا اخوان" يتكاثر الجمهور ويزداد الضرب ولا منجد ..
شيء من الشهامة قاوم ترددي, فخلعت الحذاء ودخلت إلى وسط الحلقة, وبكل ما أوتيت من نفاق ومجاملة ورجاء استطعت تخليص الشيخ من بين أيديهم المضرجة, حملته على ظهري لإنقاذ آخر ما تبقى منه وأسرعت مغادرا المسجد, أوقفت سيارة أجرة وحشرته عنوة في الكرسي الخلفي وجلست بجانبه, انطلقت السيارة مسرعة من بين حشود الغضب, وفي الطريق نظرت إلى وجهه للمرة الأولى, للحيته المصبوغة بالدم النازف من رأسه المشقوق, لعمامته الممزقة كقميص عثمان, لوجهه المقسّم كخارطة, لم ضربوك يا شيخنا الجليل؟
حاول الإجابة, ولكن أسنانه اصطكت ألماًً فسال الدم قانياً من فمه.
كررت السؤال: لم أسمع بالذي حدث لك منذ عصر الفتن, لم فعل المصلون بك ما فعلوا؟
نظر إلي وتمتم بما لم أفهم, يا شيخ.. هل اكتشفوا أنك تؤم المصلون بلا وضوء؟
حرك شفتيه فكان صوته هواءاً ودماً, اقتربت منه لأسمع فألقى بجسده عليّ ثم مد يده المرتعشة إلى جيبه وأخرج قصاصة من جريدة, نظر إليها حزينا ثم قدمها إلي ببطء, أخذتها منه وقرأت السطر الوحيد فيها:
اشتم الشيعة ليدفع لك السنة, واشتم السنة ليدفع لك الشيعة, وإذا شتمت الإثنين معا سيدفع لك اليهود.
ألقيت الورقة من شباك السيارة ثم اتجهت إليه, وأنت شتمت من؟
رفرف الشيخ بعينيه وشهق محاولا استجماع قواه للنطق:
- شتمت ال...
ثم سكت هامدا.
وإلى الآن لا أعلم شتمّ من ولأجل ماذا؟ ولا أتذكر من كله سوى قصاصة الخبر وفمه المليء بالدم.

هناك تعليق واحد: