السبت، 17 أبريل 2010

حُب مُهمل على الرصيف


هي, أحبته عشرين عاماً دون أن تكلمه, وعندما كلمته في الفرصة الأولى قالت له: لقد تزوجت!
هو, أحبها عشرين عاماً دون أن يكلمها وحين زُفت إلى غيره بكى مثل طفل!

كان ذلك أول حديث دار بينهما, ومنه كُتب عقد الفراق, أخذ يراجع ذكرياته مثل أمير أندلسي مهزوم, منذ ولدا معاً في بيت عائلي مشترك؛ فيه الجد والجدة والأعمام, لم يستطع تذكر اليوم الذي دخلت فيه قلبه, ربما حين كانت الجدة تحرجهما وتقول "ابن العم ينزل بنت عمه عن الفرس.. هي لك وأنت لها". حينها كان يشعر بالخجل, ويضع يديه في جيبه متظاهراً انه لم يسمع, أما هي فقد كانت تنسحب مسرعة من الجلسة, دون أن يقدر أحد تخمين سبب مغادرتها, فبشرتها القمحية ذات الملمس الزجاجي لم تكن تكشف عما تحس, وكان سهلاً عليها أن تغلق عيناها الصغيرتين لتمنعهما من البوح, هكذا كانت سنواتهما الخمس عشرة الأولى؛ طرف خجول والآخر غامض, وكل الذي يجمعهما لاشيء سوى نبوءات الجدة.. وكلمات قليلة سمعها الصغار دون أن يفهمومها, وتقدمت بهما الأيام مثل قطار يمشي ببطء على رمال جافة, سقطت منه الجدة, توفيت فجأة تاركة وراءها صدى جملتها لحفيديها, فشعر هو أن عقد القران قد انفصل بغياب التي كانت توفق بينهما, أما هي, فلم يستطع إلى الآن أن يتذكر حقيقة شعورها تجاهه برغم أن بشرتها تحولت ببطء إلى البياض, وبرغم أن عيناها أخذتا إستدارة واسعة وذكية, فقرر الاعتماد على نفسه لرؤية ما كانت الجدة توصي به, غادر صفه المدرسي مسرعاً, ألقى كتبه على باب البيت, وعاد من ذات الطريق ليختار مكاناً يطل على طريق عودتها, والمكان الأنسب كان بيت الجدة, ربما ليذكرها بشيء يربطهما معاً وخاف أن تنساه, وربما لأنه كان قريباً من خطاها المدرسية, أخذ مرصده على الرصيف وانتظر قدومها إلى أن رآها آتيه من بعيد, طفلة لم تتجاوز السادسة عشر تتمشى ببطء مثل الـريم, أخذت خطواتها تقربها منه, أما هو فتظاهر بأنه مشغول بالحديث مع صديقه, أقتربت منه أكثر, بان شعرها الأسود.. لباسها المدرسي الأزرق يلمع في الشمس, وما ان بدت واضحة أمامه حتى ارتبك للحظة وجلس على مقعده الرصيفي.. ثم تمالك نفسه وأكمل تلصصه إلى عينيها مباشرة باحثاً عن سره, كان عملاً شاقاً بالنسبة إليه أن ينظر إلى ابنة عمه بكل هذا الشوق, ويبدو مثل رجل غريب يريد معاكستها, فخطرت له خطة النظرة العابرة.. أعين تتمنى ان تعرف شيئاً.. تحولت بلا مقدمات إلى أعين متشابكة, كل منهما كان يبحث عن سره في عين الآخر, بدا وكأنهما أتفقا مسبقاً على هذا الموعد, فصمدت عينه فيها أكثر مما كان يظن, وهي بادلته سهامها إلى أن أستدارت وأختفت في نهاية الطريق...
اطمأن إلى إرث الجدة, لقد وهبته عيناها ما لا يقدر على المطالبة به وحيداً, أخذ ضمانته بنظرة قبول صافية وشعر بأن ميثاقاً جديداً قد كُتب مكان القديم, وقال في سره "هي لي مثلما أرى تلك الشمس", كانت نظرة واحده منها كفيله بجعله رجلاً. هل كان كذلك فعلاً؟ لا يهم, المهم أنه شعر بمسؤوليته لأول مرة.
مضت سنة كاملة, اخترع خلالها نوعاً جديداً من الحب, العين للعين, رباط مقدس حاكته النظرات البريئة, وفي فورة جرأتهما تطور معهما الحال إلى التجرؤ على النظر لمدة الثلاث دقائق متواصلة, من بداية ظهورها في الطريق, حتى مرورها من أمامه على الرصيف.. حتى إختفائها في زحمة ضوء النهار.
وأيضاً حين زارهما الشتاء, لم يوقفه المطر الغزير عن ممارسة روتينه اليومي, حيث كان يجلس في المطر مثل شحاذ بائس.. وما أن يرى عيناها حتى يسري الدفء في دمه وتنزاح الغيوم من فضائه. سنة ثانية انقضت, أدمن مواصلة الانتظار في الطريق, اتسعت عيناه وأصبحتا اكثر حدة مثل صبيان الشوارع, أما عيناها فقد ازددن ألفة وحناناً, لم ينظر طيلة حياته إلى شخص مثلما نظر إليها؛ بإستثناء صورة لزعيم عربي كانت معلقة أمام فراشه في غرفة نومه. ولكن طيلة السنة الثانية لم يستغل أية فرصة للكلام معها.. لأنه تمنى أن تبقى العلاقة بينهما طفولية كما بدأت, فاتخذ قراره بان العين أصدق وأقرب إلى القلب من الرموش التي تُسيّجها, كان ينظر إليها ويبتسم, فترد عليه بابتسامة, ومرات كثيرة كان ينهار ويضحك فرحاً, فتضحك معه بصمت, وحين كان يعبس كانت تنظر إليه مستغربة وهي تتمنى ان تعرف السبب... كان ذلك التفاهم يكفيه, لا يريد لأي حروف أن تُثقل هذا الصفاء الملائكي في عين طفلته الصغيرة.
وفي يوم صيفي آخر.. كانت آتية من بعيد, نظرت إليه طويلاً وهي تقترب, ولكنه وللمرة الأولى بدا منزعجاً, لم يعرها أي اهتمام, بل أبقى عينيه تنظران إلى الأرض..إلى الأرض فقط على غير عادته, نظرت إليه كثيراً وأبطأت في خطواتها أكثر, ولكنه بقي على حالته الشاردة, بدا كأنه يتعمد تجاهلها, رفع رأسه فرآها تبتعد وهي تنظر إليه من وراء كتفيها, كانت تكلم زميلتها.. لم يسمع ما تقولان, لكن ملامح الصديقتين تُظهر ان كل واحدة منهن تسأل الأخرى عن سبب تجاهله الذي يظهر عليه للمرة الاولى خلال عامين, كانت صديقتها تلك مرافقتها الوحيدة في طريق عودتها إلى البيت, يبدو أنها تعلم ما بينهما من علاقة صامتة, فسابقاً كانت تنظر بعيداً لتفسح لهما المجال للغزل, ولكن هذه المرة الاولى التي تنظران إليه معاً وباستغراب "ما غيّرهُ اليوم؟", كان ذلك السؤال الوحيد المرسوم في أعين الإثنتين وهما تنظران للوراء.. إليه, هو تصرف بقساوة, أو أنه تعمد ذلك, كانت الإنتفاضة قد اشتعلت في بدايتها والكل ثائر, جيله والجيل الأصغر منه, كل الشبان يغضبون وينتشرون لإلقاء الحجارة مثل أشباح يكسوها الغبار, وهو تمنى أن يأخذ دوره في صفوف المنتفضين.. المصابين والمعتقلين والمستشهدين, أراد أن يضيف إلى حبه حُباً جديداً أكثر جدية ومناسب للشبان في مثل أعوامه الثمانية عشرة, حاول ذلك, فتح كتبه المدرسية التي يملؤها حرف اسمها الأول باللون الأحمر, وأضاف الكثير من أبيات الشعر الوطنية والخرائط المنسية, كان أشعل ثورة داخل كتبه بالإضافة إلى إلقاءه الحجارة على جيش الإحتلال ليلاً, أخذته الإنتفاضة منها لفترة قصيرة دون ان تعلم سبب غيابه, لم يعد ينتظرها, يبدو أنه استبدل حبها دون ان يضيف إليه, ولكن أمنيته بفعل شيء مؤثر للإنتفاضة لم يتحقق, اكتفى بالحجارة والشعارات المرسومة على الكتب بجانب شعارات الحب.. انقضت السنة الثانية وقد انهى دراسته الثانوية وعقد العزم على السفر لإكمال تعليمه خارج فلسطين, لم يودعها ولم يشعر بان الأمر يستحق, فهو سيعود في الحال, والإنتفاضة التي تمنى المشاركة فيها بجد زادت إشتعالاً في بعده, وفي غربته تحول من ملقٍ للحجارة وللنظرات إلى مستمع ومتابع للأخبار عن بعد, أما هي فقد كان ينساها لفترات قصيرة, ربما يكون نسيها لأيام ولكنه لم يتعرف على غيرها.. اليس هذا وفاءاً منه؟ حضورها في أحلامه كان يؤكد طمأنته, وخاصة حين تعود إليه نظراتها وهي تسير من أمامه, فيشعر أن ما بينهما ما زال قائماً, وأن ما كتبه في عينيها لن تمحوه مجرد سبع سنين من البعد, بعكس الأذن التي تعتاد على كل صوت جديد, وبعكس اليد والجسد.. رباط العين أقوى من كل ميثاق, وأحياناً كان يقول "إننا نحب أمهاتنا لأنهن أول من نرى في الحياة .. وقبل الضوء". هكذا بقي يواسي نفسه طيلة الغربة.. إلى ان بعثت إليه برساله إليكترونية تقول "لقد خطبت وقريباً سأتزوج.. عقبالك!".
كان هذا أول كلام يأتيه منها طوال فترة حبه النظري لها وما قبل, شعر بأنها أخبرته لتعاقبه؛ فكيف يكون أول كلامها معه وداعاً.
لقد رأيته وهو يقرا الرسالة, بدا لي مثل طفل عاري يبحث عن أُمه, ودّ لو أنه يبكي لكنه حجز دمعته حتى لا يغسل آخر صورة لها من عينه القديمة, حاولتُ مخاطبته لكنه رفض, وبقي يتأمل شاشة حاسوبه, إنه لم يأخذ منها سوى تلك الكلمات الأربعة, قرأهن مئات المرات, وغاص في نفسه يتذكر ما حصل في غيابه, يحاول إيجاد سبب, لقد مرت عليه سبع سنين غريباً حاملاً معه وعداً من طفلة صغيرة, جاءت بالنهاية وهدمته بضربة قاسية, كأنها غريبة عنه, وضع يده على رأسه وأسند ظهره على الكرسي كأنه يجلس على الرصيف كما كان قبل السفر, تجنبت الحديث معه؛ لأنه بدا في نظري يستحق ما هو أكثرمن الكلام, ربما يحتاجها كي تحضنه, هي التي هدمته وهي القادرة على إعادة ترميمه, ولكن كيف وقد حرما نفسيهما حتى من الكلام, وهل يلومها أم يلوم نفسه, أخذ يلوم نفسه القريبه, إنه بلا شيء, بلا أحلام, بلا ماض في بلده, كانت الأخبار تأتيه باردة عبر التلفاز, فصوت الإنتفاضة كان يخبو, كادت تنتهي وهو يتابع أخبارها عبر التلفاز مثلما اختفت منه التي أحبها, كل واحدة منهن الآن تركب فرساً غريباً وتسافران إلى غيره كما سافر هو وتركهما قبل سبع سنين. حتى الزعيم الذي كان يعلق صورته في غرفة نومه تذكر للتو أنه أُعدم قبل سنين. الآن تذكر كل شيء أمل بتحقيقه ولم يقدر.. وشعر بأنه قد يكون أي شيء إلا (عنترة) الذي أخذ حبيبته بسيفه وحمى مضارب القبيلة بذراعه قبل أشعاره, وهنا خطر على باله سؤال "ماذا لو أن عنترة كان يحب فلسطين وليس عبلة؟..ربما كان حررها"..
أنه الآن يجلس على الرصيف الغريب مثل فصيل فلسطيني مُبعد في دمشق أو بيروت وينتظر الأوامر من غيره كي يتقدم!!.. أنه يراقب كل ماضيه يسافر منه مثل لاجىء اكتفى بالنظر ومراقبة أرضه تسرق.. ومن الغد سيتابع أخبار كل شيء في بلده مثله مثل باقي الغرباء المحايدين؛ ويبدل هوايته من النظر إلى السمع الإذاعي أو القراءة في الجريدة. (تحول إلى رجل الحواس الست), خاف ان يعود إلى صورته الأولى التي كان يظنها صادقة, الآن عرف أنه لم يكن يحب, بل كان لصاً في الصيف ومتسولاً في برد الشتاء. رأيت أول دمعه تنزل من عينه المقابله لي وهو يتجه نحو غرفة نومه في الغربة, استلقي على السرير وقرأ لي ببطء من ديوانه الشعري المفضل:
اذكرينى !
فقد لوثتنى العناوين فى الصحف الخائنة!
لونتنى .. لأنى منذ الهزيمة لا لون لى
( غير لون الضياع )
( قبلها ، كنت أقرأ فى صفحة الرمل
والرمل أصبح كالعملة الصعبة، الرمل أصبح أبسطة .. تحت أقدام جيش الدفاع )
فاذكرينى ، كما تذكرين المهرب .. و المطرب العاطفى .. وكاب العقيد .. وزينة رأس السنة
أذكرينى إذا نسينى شهود العيان و مضبطة البرلمان و قائمة التهم المعلنة
و الوداع!
الوداع! (*)
ثم خفت صوته ونام.. وأكمل بكاءه في الحلم.. وهو يقول:(وصية جدتي, إنتفاضة, حبيبتي)
أما انا فقد غادرت البيت قبل ان يكمل آخر أحلامه الكثيرة التي لايأخذها غلابا... فليس مطلوباً من الفلسطيني أن يصنع ويحرز شهادات, فغيره سيفعل ذلك, ولا أن يبحث عن لقمة العيش في غربة اللئام .. فغيره أحق بملء البطون, بل المطلوب منه ان يكون عنترة.. أو يكتفي بالحزن والندم مثل صديقي الذي أضاع كل شيء.. حتى بنت عمه التي تقول قوانين القبيلة انه الأحق بلحمها ودمها من الآخرين.. قولوا له هذا الكلام.


* المقطع للشاعر العربي أمل دنقل

هناك تعليقان (2):

  1. لاشيء يستدعي الذاكرة كحب يرعى نجوم الليل في سماء قلبك ثم يغيب كما لو أنه لم يكن ...
    شام

    ردحذف
  2. انا الي 4 سنين ببحث ع جوجل وبكتب كلام من عندي ... مش نص حرفي منشان أوصل ل ه الكلمات!

    ردحذف